القضاء في زمن الاستقلالية.. من يوقف تغول النيابة العامة؟

أثار محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والإشتراكية، الجدل من جديد حول مدى نجاح تجربة استقلالية القضاء والنيابة العامة بالمغرب مستغلا النقاش الدائر حول من استقلالية النيابة العامة، ليذكر خلال محاضرته بحر الأسبوع المنصرم في ضيافة مؤسسة الفقيه التطواني بالرباط، بالنقاش الذي كان يدور داخل الحكومة التي كان يرأسها عبد الإله بنكيران، حول هذا الموضوع، مشيرا إلى أن حزب التقدم والاشتراكية كان هو الحزب الوحيد من داخل الحكومة، الذي طرح الإشكالات الكبرى التي يمكن أن يطرحها موضوع استقلالية النيابة العامة، وطالب من جميع الفرقاء التفكير مليا في الموضوع، خاصة في ظل الواقع المغربي وحتى في بعض الدول الأخرى، حيث أدت هذه العملية إلى ممارسات غير سليمة ولا علاقة لها بالممارسة الديمقراطية، وأضاف أن العديد من الأطراف كانت متفقة مع موقف حزب التقدم والاشتراكية لكنها لم تجرؤ على أن تجهر بذلك للعموم.
وأعرب زعيم التقدميين المغاربة، عن أمله في أن تبين تجربة استقلالية النيابة العامة، التي هي في الجوهر مبدأ ديمقراطي سليم على مستوى التدبير القضائي، عن نجاعتها، وعلى أنها ستقدم المسار القضائي في بلادنا، مشيرا إلى أنه إلى حدود اليوم، ليست هناك مؤشرات للحكم على نجاح أو فشل التجربة، لكن “الحذر ضروري على هذا المستوى لأن النيابة العامة يتعين أن تكون في ارتباط مع بقيت المؤسسات، وبديمقراطية هذه المؤسسات بكاملها”، يقول نبيل بنعبد الله.
و على بعد أيام من افتتاح السنة القضائية يطرح التساؤل القديم الجديد ماذا يمكن لإستقلالية القضاة عن السلطة التنفيذية وتحديدا عن وزارة العدل أن تقدم للقضاة لممارسة وظيفة فض النزاعات بين المتقاضين خصوصا في الشق المتعلق بضمانات الحياد وعدم الخضوع للتأثيرات والضغوط المتنوعة؟.
ويرى كثيرون أن تجربة المغرب الفتية في فصل النيابة العامة وتدبير وضعية القضاة عن وزارة العدل، ورغم قصر التجربة التي لا تتجاوز السنتين فقد أبانت عن عقد ومشاكل أكثر في علاقة مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة والمفتشية العامة مع القضاة بشكل عام ومع القضاة الشباب بشكل خاص.
وفي ظل هذا النقاش الدائر حول استقلالية النيابة العامة، أرخت تداعيات إلغاء المقرر الأممي الخاص باستقلال القضاة والمحامين زيارته التي كانت مقررة إلى المغرب، بعد علمه أنه لن يسمح له بالتحرك بأرياحية في ردهات محاكم المملكة، ولقاء المحامون وبعض المعتقلون والقضاة الشباب، إذ جر عبد اللطيف وهبي، القيادي في حزب الأصالة والمعاصرة، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، مصطفى الرميد، إلى المساءلة البرلمانية بسبب هذا الموضوع.
ووجه عبد اللطيف وهبي سؤالا كتابيا إلى الرميد خاطبه فيه قائلا: “رغم خطابكم الذي يشيد بالإصلاحات القضائية، والتي كثيرا ما انتقدناها واعتبرنا أنها لا تصب في المسار الصحيح، ورغم تصريحاتكم المتكررة باحترام الحكومة للمؤسسات والهيئات الأممية، فوجئنا من جديد بإعلان المقرر الأممي الخاص باستقلال القضاة والمحامين، عن إلغاء زيارته للمغرب”.
وقال وهبي إن المقرر الأممي برر إلغاء الزيارة “بسبب ما سماه عدم تقديم الحكومة المغربية للضمانات ولبرنامج عمل يتماشى والمطالب المطبقة في هذا النوع من الزيارات”، ليساءل الرميد على هذا الأساس عن “الأسباب الحقيقية وراء إلغاء هذه الزيارة، وعن حقيقة وجدية التزام الحكومة بتقديم جميع التسهيلات والإمكانيات لقيام المؤسسات الأممية بمهامها الفعلية المنصوص عليها في الاتفاقيات والمواثيق الدولية”، حسب ما ورد في السؤال.
وأضحى العديد من المتتبعين للشأن العام بالمغرب، يخشون من استمرار تغول النيابة العامة، خصوصا أن الوكيل العام للملك بمحكمة النقض، بصفته رئيسا لهذا الجهاز القضائي ذي الطبيعة الأمنية كذلك، يرفض الخضوع لأي مساءلة برلمانية أو سياسية بحجة استقلالية السلطة القضائية. إذ يعبرون عن امتعاضهم الشديد من انتقائية النيابة العامة في التعاطي مع العديد من الملفات الأبحاث الجنائية لمتابعة من تشاء والإفراج على من تشاء، معتبرين أن الحكم في ما بات يعرف بملف "حجيرة وبعيوي" السياسي بعد براءتهم ابتدائيا، يثبت بالملموس انتقائية النيابة العامة في اختيار ملفات فساد السياسيين ربما لإضعاف بعض الأحزاب وتقوية أخرى.
وتجمع مجموعة من الآراء في صفوف القضاة حول مزايا وإيجابيات الاستقلالية عن وزير العدل، على وجود أمرين اثنين لا ثالث لهما. الأول متعلق بتحفظ القضاة عن إبداء أي رأي مقرون بهويتهم حول ما حققه إنفصال النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، في ظل الحديث عن الإعتراف بحرية الرأي داخل وظيفة القضاء. فيما الأمر الثاني يتجلى في وجود تذمر حقيقي لدى عينيات من القضاة من مختلف الأجيال، مرتبطة بطريقة تدبير وضعيات القضاة ومراقبة عملهم من قبل المفتشية العامة.
وكشف مجموعة من القضاة الذين تشبثوا في حقهم بعدم إبراز هويتهم ومقرات عملهم، أن المفتشية العامة التي نص القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في فصله 54 على إحداثها تشتغل خارج القانون، باعتبار أن القانون التنظيمي المشار إليه ربط اختصاصات وهيكلة المفتشية المذكورة بإصدار نص قانوني من اختصاص البرلمان والذي لم يتم تبنيه بعد.
ويعتبرون أنهم يمارسون مهامهم في إطار وظيفة إمارة المؤمنين طبقا للاجتهادات القضائية المستقرة منذ السبعينيات، وأنه لا يجوز التعامل معهم كموظفين بسطاء لما يقومون به من مهام جسيمة في إحقاق الحقوق وزجر التعديات.
وقد لا حظ عدد من القضاة أن التدبير الجديد للمجلس يركز بشكل كبير على إبعاد عدد من القضاة عن محاكم معينة سواء من خلال انتقالات غير مفهومة، كما أن المجلس يدبر وضعية التمديد بعد سن التقاعد بطريقة غير واضحة المعايير، وسردوا حالات معينة تتحفظ الجريدة عليها باعتبارها أسرارا مهنية وإن كان بعضها خرج للرأي العام. وأرجع هؤلاء الذين تحدثوا إلينا هذا الوضع إلى وجود انقسام خطير داخل هيئة القضاة بين مختلف الأجيال يكرسه المجلس عن طريق التفتيش وغيرها من الإجراءات.
وقد نبه جل الذين قبلوا الحديث إلينا من خطورة انزلاق المجلس في تدبير وضعياتهم نحو الشخصنة والانتقام وخلق العشائرية والولاء للمسؤولين داخل صفوفهم، الشيء الذي لم يكن معروفا بهذا الشكل في التجربة السابقة عندما كان وزير العدل فاعلا رئيسيا في حياة القضاة والمحاكم، مما خلق لدى البعض حنينا إلى الزمن الماضي بسبب الخوف الجديد داخل المحاكم حسب تصريحاتهم.