اتفاقيات الشغل الجماعية .. آلية فعالة تشق طريقها بصعوبة

في الماضي القريب كانت جل العلاقات المهنية بين المكاتب النقابية الممثلة للأجراء، وإدارات المقاولات، محكومة بعملية شد حبل لا تنتهي، وهو ما كان يفتح الباب أمام التوترات والإضرابات، لكن يبدو أن هذه العلاقة دشنت عهدا آخر مع بروز الطلائع الأولى لاتفاقيات الشغل الجماعية في بداية القرن الحالي، والتي تسعى إلى الموازنة بين حقوق الأجراء وتنمية المقاولات .

وإذا كانت هناك رغبة في التأسيس لتجربة اتفاقيات الشغل الجماعية، وكذا التطلع لتوسيع مجالها ، فإنه بالمقابل هناك تردد وتوجس في اعتمادها وتنفيذها ، خاصة وأن عدد الاتفاقيات التي رأت النور حتى الوقت الراهن ، متواضعة وتعد على الأصابع في وقت تعد فيه المقاولات بالآلاف .

فاتفاقيات الشغل الجماعية ، التي تعبر عن توجه مشترك للتعاطي مع العلاقات المهنية بمنطق مغاير، توفر في الوقت ذاته الكثير من الجهد والطاقة والهدر، الذي قد يتم استثماره لما فيه خير الجميع، أي المقاولات والأجراء وحتى الاقتصاد الوطني .

وما يؤكد هذه الأطروحة هو أن المركزيات النقابية تشدد في أكثر من مناسبة بأنها تفضل المفاوضة والحوار للتغلب على مختلف المشاكل، قبل أن تلجأ للإضرابات كحق دستوري من أجل تكريس حقوق الشغيلة، كما أن المقاولات، خاصة تلك التي تحترم القوانين الجاري بها العمل، تقول إنها كون سعيدة حين يكون مناخ العمل مطبوعا بالانفراج والتعاون والجد والعمل، وكذلك الشأن بالنسبة للحكومة التي تؤكد أنها تحرص على توفير شروط المفاوضات المفضية إلى إبرام اتفاقيات جماعية.

وهذا الوعي الجماعي المتنامي ، هو الذي شكل أساس تعاقدات بين مختلف أطراف عملية الإنتاج، وقاد في عدة مناسبات إلى مفاوضات وحوار جدي، توجا باتفاقيات جماعية كسبيل وحيد لتجنب المشاكل والاضرابات والطرد واللجوء للمحاكم أحيانا ، لأن الأمر يتعلق بآلية فعالة لتكريس السلم الاجتماعي ، لكنها ما تزال، مع ذلك، تشق طريقها بصعوبة .

على أن الأهم في هذه العملية برمتها هو أن الكثير من أرباب العمل يقرون بشكل صريح بأن إبرام اتفاقيات شغل جماعية على مستوى مقاولاتهم، ساهم بشكل كبير في الرفع من المردودية والإنتاجية، لأن تلك الاتفاقيات، التي تتضمن التزامات متبادلة، توفر شروط عمل مريحة للجانبين .

وحسب معطيات لوزارة الشغل والإدماج المهني، حصلت عليها وكالة المغرب العربي للأنباء ، فإن اتفاقيات الشغل الجماعية المبرمة بين المركزيات النقابية ومختلف المقاولات، شهدت، على العموم منحى تصاعديا، منذ سنة 2010 وصولا إلى سنة 2020، مع التطلع في الآن ذاته إلى توسيع مجال هذه الاتفاقيات في المستقبل القريب .

وبلغة الأرقام، وحسب هذه المعطيات، فإن سنة 2010 شهدت توقيع اتفاقية وحيدة يتيمة، وكذلك الشأن بالنسبة لسنة 2011، قبل أن ينتقل عددها إلى ثلاثة سنة 2012 ، فيعود منحاها إلى اتفاقية وحيدة سنة 2013 .

وفي سنة 2014 بلغ عدد هذه الاتفاقيات أربعة، وقفزت إلى 8 سنة 2015، ثم انحدرت إلى ثلاثة سنة 2016 ، فعاودت الصعود بشكل لافت ببلوغها 13 اتفاقية سنة 2017 ، ثم 7 سنة 2018 ، وعادت لتسجل رقما مهما هو 13 سنة 2019 .

وجرى مؤخرا توقيع اتفاقية شغل جماعية بين مجموعة (بومباردييه) الرائدة عالميا في تصنيع أجراء الطائرات، والمكتب النقابي للشركة المنضوي تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل ، وهي الاتفاقية الرابعة التي وقعت منذ مطلع سنة 2020 .

وتبقى الإشارة إلى أن اتفاقيات الشغل الجماعية لاتهم فقط وحدات الإنتاج التقليدية، ولكنها تهم مختلف القطاعات بما فيها تلك التي تسمى المهن الجديدة للمغرب، وهو ما أكده وزير الشغل والإدماج المهني السيد محمد أمكراز خل توقيع الاتفاقية الخاصة بمجموعة (بومباردييه)، لافتا إلى أن هذه الاتفاقية تأتي نتيجة الدينامية التي أصبح يعرفها مجال النهوض بالمفاوضة الجماعية ببلادنا، وإبرام اتفاقيات الشغل الجماعية .

وعلى المستوى العملي ، أوضح أمكراز، أن الوزارة جعلت النهوض بالمفاوضة الجماعية وإبرام اتفاقيات الشغل الجماعية ضمن أولويات عملها، بل ووضعت، كما قال ، لهذا الغرض برنامجا وطنيا للنهوض بالمفاوضة الجماعية على المستوى الجهوي، وذلك بهدف مواكبة المقاولات المؤهلة لإبرام اتفاقيات الشغل الجماعية، مشيرا إلى أن هذا البرنامج المعد وفق مقاربة تشاركية، يتم تنفيذه منذ سنة 2017 وفق المقاربة نفسها .

وتجدر الإشارة إلى أنه في التشريع المغربي، لم يكن يوجد إطار قانوني ينظم المفاوضة الجماعية، إلى حين صدور مدونة الشغل سنة 2003 .

ومن بين المستجدات التي نصت عليها مدونة الشغل، هي إدراجها لأول مرة لمقتضيات قانونية تتعلق بالمفاوضة الجماعية بين عنصري الانتاج من خلال المواد 92 إلى 103 من مدونة الشغل.

وعرفتها المادة 92 من مدونة الشغل " المفاوضة الجماعية" بأنها الحوار الذي يجري بين ممثلي المنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا أو الاتحادات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا من جهة، وبين المشغل أوعدة مشغلين أو ممثلي المنظمات المهنية للمشغلين من جهة أخرى، وذلك بهدف تحديد وتحسين ظروف الشغل والتشغيل، وتنظيم العلاقات بين المشغلين والأجراء، وبين المشغلين أو منظماتهم من جهة وبين منظمة أو عدة منظمات نقابية للأجراء أكثر تمثيلا من جهة أخرى .

ويبدو أن المشرع المغربي لم يقيد أطراف العلاقة الشغلية المهنية بشأن تحديد مواضيع المفاوضة الجماعية، لكنه، ترك لهم كامل الحرية لتحديد الموضوع، كما أن المشرع حصر المفاوضة في نقابات الأجراء الأكثر تمثيلا بالمقاولة، حيث الالتزام بالمفاوضة الجماعية والعمل من أجل الوصول إلى اتفاق.

وتبقى الإشارة إلى أنه كلما جرى توسيع مجال هذه الاتفاقيات، فإن أجواء الانفراج قد تتعزز ، وهو ما يوفر ظروفا أفضل للإنتاج، وفي الوقت نفسه المحافظة على حقوق الأجراء، وهذا ما يساهم في ضمان السلم الاجتماعي والدفع بعجلة التنمية.

ويذكر أنه جرى في 14 يناير 2020 بالدار البيضاء ، توقيع اتفاقية شغل جماعية بين إدارة شركة "ليوني –عين السبع" الناشطة في صناعة الاسلاك الكهربائية للسيارات وأجرائها المنضوين تحت لواء نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب ،

كما تم بسيدي سليمان ( 16 يناير 2020 ) التوقيع على اتفاقية شغل جماعية بين شركة "س.س البيئة"(مجموعة كازاتيكنيك)، المفوض لها بتدبير مرفق النظافة وجمع النفايات بالمدينة والمكتب النقابي لمستخدمي الشركة المنضوي تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل .

وبمدينة آسفي جرى يوم 14 فبراير 2020 ، توقيع اتفاقية شغل جماعية بين شركة آسفي للبيئة المفوض لها بتدبير مرفق النظافة وجمع النفايات ببلدية آسفي والمكتب النقابي بها المنضوي تحت لواء الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب.