عادات وتقاليد المغاربة في رمضان..رسخها الأجداد وحافظ عليها الأحفاد (فاس)

لشهر رمضان الكريم في المغرب خصوصية متميزة عن باقي الدول الأخرى، إذ تتسم لياليه بأجواء مليئة بالإيمان والرحمة، وهذا ما يتجلى بشكل واضح في اكتضاض المساجد بالمتعبدين كباراً وصغاراً سواء كانوا رجالاً أم نساءً، غير أن العادات الرمضانية المغربية لا تنحصر في  المساجد فقط، بل تمتد  لما يجري من أحداث و فعاليات في الشوارع  والدروب المغربية،  عكس القيم الرمضانية العريقة.

في هذا الشهر الكريم، تتجدد الكثير من الطقوس المؤثرة التي تستمد قوتها من التراث الشعبي المحلي، طقوس تختلف من مدينة لأخرى وقد ارتأينا ان ننهل منها للقارئ على شكل حلقات، وأن نخوض في دروب مدننا العريقة ونستمد منها تقافتها الشعبية الاصيلة.

مدينة فاس 12 قرنا من التاريخ..عادات وتقاليد تتوارث مع الأجيال

 

يتميز شهر رمضان بالعاصمة العلمية والروحية للمملكة بالعديد من العادات والتقاليد المترسخة في وجدان ساكنة المدينة كما يختزل العديد من الدلالات الروحية باعتباره يشكل موعدا يتجدد كل سنة مع السعادة الروحية وتقوية الإيمان والمواظبة على التعبد والتقرب إلى الخالق.

فمنذ اليوم الأول من هذا الشهر الكريم، تشهد مختلف المساجد سواء المتواجدة بقلب المدينة العتيقة ودروبها وحاراتها أو بالمدينة الجديدة وشوارعها وأزقتها إقبالا ملفتا من طرف المصلين والذي يستمر طيلة نهارات وليالي هذا الشهر الفضيل.

وتشهد هذه المنارات الدينية والروحية توافدا كبيرا من طرف المواطنين الذين يتقاطرون عليها في كل وقت من أوقات الصلاة لأداء شعائرهم الدينية في جو روحاني يعبق بالذكر وتلاوة القرآن والتضرع إلى الله بالدعاء الصالح.

وحتى قبل حلول هذا الشهر المبارك تكون هذه المساجد وأماكن العبادة قد شهدت عمليات واسعة من التنظيف والإصلاح والترميم يقوم بها القيمون على المساجد وكذا العديد من المتطوعين الذين يساهمون في هذه المبادرات ويعتبرون عملهم ومجهودهم خالصا لوجه الله وابتغاء مرضاته.

وإلى جانب أداء الصلاة في وقتها داخل المساجد يحرص المواطنون الذين يفدون على بيوت الله خلال شهر رمضان على حضور وتتبع الدروس الدينية التي يلقيها علماء أجلاء طيلة شهر رمضان والتي تتمحور حول قضايا متعددة خاصة السيرة أو الحديث النبوي الشريف أو في تفقيه الناس في أمور دينهم وتصحيح بعض الممارسات والبدع الخاطئة وحث الناس على الالتزام بمبادئ الإسلام الحنيف التي تدعو إلى التسامح والإخاء ونبذ العنف .

وفضلا عن الحرص والاهتمام بالجانب التعبدي والديني من خلال التردد على بيوت الله لأداء الصلاة والإكثار من أعمال البر والخير والاستغفار والاجتهاد في الطاعة يتشبث أهل فاس خلال هذه المناسبة بتقاليد المأكل والملبس من خلال إحياء العديد من العادات والتقاليد التي كرستها مدينة فاس منذ قرون طويلة احتفاء بشهر رمضان الأبرك .

وفي هذا الإطار تحرص ربات البيوت خلال هذا الشهر الكريم على إعداد وتحضير وجبات ومأكولات و ( شهيوات ) لا يمكن أن تغيب عن مائدة الإفطار طيلة أيام هذا الشهر خاصة الشباكية والبرويوات وسلو وكريوش أو بغرير والمسمن والحرشة وغيرها من المواد والمأكولات التي غالبا ما تؤثث مائدة الإفطار لدى ساكنة المدينة .

 كما أن رمضان بفاس يشكل مناسبة للمواطنين من أجل التبضع وشراء ما يلزم من مواد مع الحرص على معاودة الاتصال بكل ما هو منتوج ( بلدي ) حيث تقبل النساء وربات البيوت على البحث في جولات مطولة عن ذاك المنتوج غير المستورد لتستعمله في تحضيراتها ل ( الشهيوات ) التي تبرع في إعدادها كالعسل واللوز والتمر والتي تهيئ من خلالها عجائن ومشروبات تزين بها المائدة.

وبعد الإفطار وصلاة التراويح غالبا ما يتوافد الناس على المقاهي والفضاءات المفتوحة ليتوزعوا ضمن مجموعات تضم المعارف والأصدقاء وأفراد الأسرة الواحدة منهم من يخوض في النقاش حول مختلف المواضيع والقضايا ومنهم ومن تستهويه لعبة ( الورق ) أو الشطرنج بينما يفضل آخرون تتبع مباريات كرة القدم أو بعض الأعمال الفنية المبثوثة على القنوات الفضائية .

وأضحى شهر رمضان الأبرك في السنوات الأخيرة يمثل مناسبة لنشاط وحركية اقتصادية جد مهمة حيث يكثر الاستهلاك من طرف الناس الذين يلهثون وهم صيام بدافع نفسي محض وراء اقتناء ما تزيد عنه حاجتهم في الغالب الأعم كما يشترون كل ما تقع عليه أعينهم بفعل تأثير الجوع والعطش حتى ليخيل لهم أنهم لم يتبضعوا كفاية.

وترسم الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان، البسمة على الصغار قبل الكبار في الإحتفال بتقاليد وأعراف متوارثة جيلا عن جيل، معلنة بداية العد التنازلي لإستقبال عيد الفطر السعيد وتوديع شهر الصيام والتعبد.

وتبصم الأيام الأخيرة من شهر رمضان في فاس مشاعر الغبطة على وجوه الأطفال بوجه خاص، لكونهم ينالون قسطا وافرا من الإهتمام في حفلات الحناء والتزين بالألبسة الجديدة، وإلتقاط صور تذكارية توثق للحظات مهمة من تاريخ شخصية الطفل، نناهيك عن طقوس احتفالية مستجدة.

وتضفي حفلات الحناء الخاصة بالأطفال والموسيقى التقليدية المرافقة فسيفساء من نوع مختلف يحتفل فيها آباء وأولياء الأمور ببراعم صغيرة تحاول شق طريقها وسط العادات والتقاليد المتوارثة التي تبرز بقوة مع المناسبات الدينية والإجتماعية لتشكل آلية مجتمعية للتنشئة وتعزيز الشعور بالهوية الفردية والجماعية.

ويسبق الأطفال في التزين بالملابس الجديدة الكبار خلال الإحتفاء بليلة القدر، حيث يرتدون أبهى الملابس التقليدية والعصرية قبل حلول يوم العيد، فيما يسابق الكبار الزمن لوضع ترتيبات اللحظة الاحتفالية التي تشمل أساسا اقتناء الحلويات أو تحضيرها في البيت قبل نهاية الشهر الفضيل.

ويوازي هذا التقليد الاحتفالي في العشر الأواخر حركية بالأسواق التقليدية وأسواق القرب يعرض فيها التجار جديد بضائعهم من الملابس والأحذية، والحلويات والمواد الغذائية الخاصة بهذه الأيام.

وبحيي “الملاح” و”فاس الجديد” يتعالى الصخب وتضيق الأزقة بالمارة حين تفيض البضائع على المحلات التجارية لتقتطع أجزاء من قارعة الطريق بينما يتنافس التجار في تحفيز المارة على الاقبال بأسعار “تفضيلية”.

ولا يختلف الحال في دروب المدينة القديمة لفاس بداية من “الطالعة الصغيرة” حيث تنتعش الحركة التجارية بردا وسلاما على المهنيين الذين عانوا من تبعات الأزمة الصحية لكوفيد 19، خصوصا قرب جامع “الأندلس” وصولا إلى “باب الفتوح” و”باب الخوخة”، وهي أماكن يقصدها الزبناء ابتغاء أسعار أفضل مقارنة مع متاجر عصرية أخرى.

طقوس وأجواء تتجدد عبر الحقب وبتوالي الأجيال لترسم مشهدا اجتماعيا يعكس الوفاء للذاكرة الجماعية والتمسك بالجذور الثقافية للهوية في مدينة تتنفس التاريخ وتخلد التقاليد