من خلال مقارنة مع السنة الماضية، يمكن تصنيف خطاب العرش لسنة 2019، في الذكرى ال 20 لتربع الملك محمد السادس على عرش المملكة المغربية، ضمن الخطب "اللوامة" و"الكاشفة لنواقص" الفاعلين السياسيين والسياسات العمومية، خاصة على المستوى البرامج والمنجزات الإجتماعية.
وعكس خطاب السنة الماضية الذي يمكن تصنيفه ضمن "الخطب المعتدلة" مقارنة مع خطاب 2017 الذي كان النقد الملكي حادا وقويا لدرجة وصف الطبقة الساسية بالفاقدة للثقة وغير قادرة على إبداع حلول اجتماعية، حيث أشار الملك محمد السادس بأن المغرب "أنجز نقلة نوعية على مستوى البنيات التحتية، سواء تعلق الأمر بالطرق السيارة أو القطار الفائق السرعة أو الموانئ الكبرى أو في مجال الطاقات المتجددة وتأهيل المدن والمحال الحضري، كما أن البلاد قطعت مجهودات كبيرة في مجال ترسيخ الحقوق والحريات، وتوطيد الممارسة الديموقراطية السليمة"، لكن هذه المنجزات على أهميتها فهي لاتكفي.
اقرأ أيضا
ووصف الملك محمد السادس حصيلة فترة حكمه التي دامت 20 سنة بالإيجابية، متأسفا على كون المنجزات لم تشمل جميع فئات المجتمع المغربي، حيث شدد عن الأمانة والمسؤولية العظيمة لقيادته للشعب المغربي، مصرحا بالقول “عاهدت الله تعالى على أن أعمل صادقا للوفاء بها"، مشيرا بالقول " يشهد الله أنني جعلت من خدمتك شغلي الشاغل حتى ينعم المغاربة بالعيش الحر الكريم"، مصرحا بأن المغاربة حققوا إجماعا وطنيا حول ثوابت الأمة ومقدساتها وأولها الملكية المواطنة التي تتبنى القرب من المواطن، وحول الخيار الديمقراطي “"لذي نقوده بعزم وثبات والمصالحات والمشاريع الكبرى التي أنجزت لبناء المغرب الحديث وتجاوز الصعوبات".
وأقر الملك في خطاب العرش بمكامن النقص والضعف في السياسات العمومية، مصرحا بالقول" صحيح أننا لم نتمكن أحيانا من تحقيق كل ما نطمح إليه، ولكننا اليوم أكثر عزما على مواصلة الجهود وتقويم الاختلالات التي أبانت عنها التجربة، مشيرا إلى الملكية الوطنية والمواطنة، التي تعتمد القرب من المواطن، وتتبنى انشغالاته وتطلعاته، وتعمل على التجاوب معها"، حيث أكد الخطاب الملكي على العزم لمواصلة الجهود، وترصيد المكتسبات، واستكمال مسيرة الإصلاح، وتقويم الاختلالات، التي أبانت عنها التجربة.
ومن منطلق الوضوح والموضوعية، فإن ما يؤثر على هذه الحصيلة الإيجابية، يشير الملك، هو "أن آثار هذا التقدم وهذه المنجزات، لم تشمل، بما يكفي، مع الأسف، جميع فئات المجتمع المغربي، ذلك أن بعض المواطنين قد لا يلمسون مباشرة، تأثيرها في تحسين ظروف عيشهم، وتلبية حاجياتهم اليومية، خاصة في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية، والحد من الفوارق ا لاجتماعية، وتعزيز الطبقة الوسطى"، مصرحا بالقول ".ويعلم الله أنني أتألم شخصيا، ما دامت فئة من المغاربة، ولو أصبحت واحدا في المائة، تعيش في ظروف صعبة من الفقر أو الحاجة...لذلك، أعطينا أهمية خاصة لبرامج التنمية البشرية، وللنهوض بالسياسات الاجتماعية، والتجاوب مع الانشغالات الملحة للمغاربة...وكما قلت في خطاب السنة الماضية، فإنه لن يهدأ لي بال، حتى نعالج المعيقات، ونجد الحلول المناسبة للمشاكل التنموية والاجتماعية ولن يتأتى لنا ذلك ، إلا بعد توفر النظرة الشمولية، ووجود الكفاءات المؤهلة، والشروط اللازمة، لإنجاز المشاريع المبرمجة".
وتحدث الخطاب الملكي لهذه السنة عن قصور النموذج التنموي، موضحا حسب نص الخطاب"لقد أبان نموذجنا التنموي، خلال السنوات الأخيرة، عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية، ومن التفاوتات المجالية. وهو ما دفعنا للدعوة لمراجعته وتحيينه"، منتقدا سياسة اللجان الخاصة لأنها أحسن طريقة لدى البعض، لدفن ا لملفات والمشاكل".
وقرر الملك محمدذ السادس، إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التي ستحضى في القادم بالتنصيب، حيث أن هذه اللجنة لن تكون بمثابة حكومة ثانية، أو مؤسسة رسمية موازية؛ وإنما هي هيأة استشارية، ومهمتها محددة في الزمن، كما عليها أن تأخذ بعين الاعتبار التوجهات الكبرى، للإصلاحات التي تم أو سيتم اعتمادها، في عدد من القطاعات، كالتعليم والصحة، والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي؛ وأن تقدم اقتراحات بشأن تجويدها والرفع من نجاعتها، حيث ينتظر من اللجنة وفق الخطاب الملكي "أن تباشر عملها، بكل تجرد وموضوعية، وأن ترفع لنا الحقيقة، ولو كانت قاسية أو مؤلمة، وأن تتحلى بالشجاعة والابتكار في اقتراح الحلول".
وشدد الملك على الرفع من مستوى الخدمات الاجتماعية الأساسية، ومن أداء المرافق العمومية، حيث دعا الحكومة للشروع في إعداد جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، تقوم على التكامل والانسجام، من شأنها أن تشكل عمادا للنموذج التنموي، في صيغته الجديدة، مشيرا إلى مرحلة جديدة قوامها المسؤولية والإقلاع الشامل، وهي "مرحلة واعدة، لأن ما يزخر به المغرب من طاقات ومؤهلات"، حيث كشف الملك بأن "الطموح هو أن يلتحق المغرب بركب الدول المتقدمة".
وأشار الملك بأن المرحلة الجديدة، "التي نحن مقبلون عليها، حافلة أيضا بالعديد من التحديات والرهانات الداخلية والخارجية، التي يتعين كسبها؛ وفي مقدمتها رهان تو طيد الثقة والمكتسبات وثانيها رهان عدم الانغلاق على الذات، خاصة في بعض ا لميادين، التي تحتاج للانفتاح على الخبرات والتجارب العالمية، باعتبار ذلك عماد التقدم الاقتصادي والتنمو ي، بما يتيحه من استفادة من فرص الرفع من تنافسية المقاولات والفاعلين المغاربة"، حيث إنتقد الملك بعض القطاعات والمهن قائلا" صحيح أن الدولة والقطاع العام، والهيآت المهنية الوطنية، قاموا بمجهودات كبيرة، للنهوض بدورهم، والارتقاء بمستوى عملهم إلا أن بعض القطاعات والمهن الحرة مثلا، تحتاج اليوم، إلى الانفتاح على الخبرات والكفاءات العالمية، وعلى الاستثمار الخاص، الوطني والأجنبي، وقد عبرت العديد من المؤسسات والشركات العالمية، عن رغبتها في الاستثمار والاستقرار بالمغرب".
وبقدر "ما يبعث ذلك على الارتياح، للثقة التي يحظى بها المغرب، فإن القيود التي تفرضها بعض القوانين الوطنية، والخوف والتردد ، الذي يسيطر على عقلية بعض المسؤولين؛ كلها عوامل تجعل المغرب أحيانا، في وضعية انغلاق وتحفظ سلبي"، حيث كشف الملك بالقول "فالذين يرفضون انفتاح بعض القطاعات، التي لا أريد تسميتها هنا، بدعوى أن ذلك يتسبب في فقدان مناصب الشغل، فإنهم لا يفكرون في المغاربة، وإنما يخافون على مصالحهم الشخصية، بل بالعكس ، فإن الاستثمار الأجنبي في هذه القطاعات، سيدعم جهود الدولة، ليس فقط في توفير الشغل، وإنما أيضا في تحفيز التكوين الجيد، وجلب الخبرات والتجارب الناجحة".
وأفاذ الملك بأن "القطاع العام يحتاج، دون تأخير، إلى ثورة حقيقية ثلاثية الأبعاد، ثورة في التبسيط، وثورة في النجاعة، وثورة في التخليق"، مشيرا "إلى ضرورة تغيير وتحديث أساليب العمل، والتحلي بالاجتهاد والابتكار في التدبير العمومي"، مشيرا الى العدالة الاجتماعية بالقول "مغرب لامكان فيه للتفاوتات الصارخة، ولا للتصرفات المحبطة، ولا لمظاهر الريع، وإهدار الوقت والطاقات.
لذا، يجب إجراء قطيعة نهائية مع هذه التصرفات والمظاهر السلبية، وإشاعة قيم العمل والمسؤولية، والاستحقاق وتكافؤ الفرص".
وتحدث الخطاب عن النخب والمرحلة الجديدة الجديدة قائلا" فالمرحلة الجديدة ستعرف إن شاء الله، جيلا جديدا من المشاريع ولكنها ستتطلب أيضا نخبة جديدة من الكفاءات، في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيآت السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة، وفي هذا الإطار، نكلف رئيس الحكو مة بأن يرفع لنظرنا، في أفق الدخول المقبل، مقترحات لإغناء وتجديد مناصب المسؤولية، الحكومية والإدارية، بكفاءات وطنية عالية المستوى، وذلك على أساس الكفاءة والاستحقاق، وهذا لا يعني أن الحكومة الحالية والمرافق العمومية، لا تتوفر على بعض الكفاءات. ولكننا نريد أن نوفر أسباب النجاح لهذه المرحلة الجديدة، بعقليات جديدة، قادرة على الارتقا ء بمستوى العمل ، وعلى تحقيق التحول الجوهري الذي نريده".
وإختتم الخطاب الملكي رسائله القوية "بالتأكيد على مغربية صحرائنا، ووحدتنا الوطنية والترابية، وسيادتنا الكاملة على كل شبر من أرض مملكتنا"، حيث أعرب الملك عن "اعتزازنا بما حققته بلادنا من مكاسب، على الصعيد الأممي والإفريقي والأوربي، فإننا ندعو إلى مواصلة التعبئة، على كل المستويات، لتعزيز هذه المكاسب، والتصدي لمناورات الخصوم، ويبقى المغرب ثابتا في انخراطه الصادق، في المسار السياسي، تحت المظلة الحصرية للأمم المتحدة، كما أنه واضح في قناعته المبدئية، بأن المسلك الوحيد للتسوية المنشودة، لن يكون إلا ضمن السيادة المغربية الشاملة، في إطار مبادرة الحكم الذاتي، ذلك أن التحديات الأمنية والتنموية، التي تواجهنا، لا يمكن لأي بلد أن يرفعها بمفرده".
كما أكد الملك على الالتزام "الصادق، بنهج اليد الممدودة، تجاه أشقائنا في الجزائر، وفاء منا لروابط الأخوة والدين واللغة وحسن الجوار، التي تجمع، على الدوام، شعبينا الشقيقين، وهو ما تجسد مؤخرا، في مظاهر الحماس والتعاطف، التي عبر عنها المغاربة، ملكا وشعبا، بصدق وتلقائية، دعما للمنتخب الجزائري، خلال كأس إفريقيا للأمم بمصر الشقيقة؛ ومشاطرتهم للشعب الجزائري، مشاعر الفخر والاعتزاز، بالتتويج المستحق بها؛ وكأنه بمثابة فوز للمغرب أيضا".
وأضاف الملك "بأن المغرب ملك لجميع المغاربة، وهو بيتنا المشترك. وعلينا جميعا، كل من موقعه، أن نساهم في بنائه وتنميته، وأن نحافظ على وحدته وأمنه واستقراره مغرب يتسع لكل أبنائه، ويتمتع فيه الجميع، دون استثناء أو تمييز، بنفس الحقوق، ونفس الواجبات، في ظل الحرية والكرامة الإنسانية".