معضلة الأحزاب بين سباق الرقمنة وأزمة الثقة السياسية (تقرير)

يعيش المشهد السياسي المغربي على وقع مفارقة لافتة. ففي الوقت الذي تتسابق فيه الأحزاب، سواء من الأغلبية أو المعارضة، على تبني أحدث أدوات التواصل الرقمي والذكاء الاصطناعي في محاولة يائسة لتجديد خطابها والوصول إلى فئات جديدة، تتسع هوة انعدام الثقة وتتآكل النخب بوتيرة متسارعة، مخلفة وراءها عزوفا شبابيا مقلقا وقطيعة شبه تامة مع الممارسة السياسية التقليدية.

حزب العدالة والتنمية، مثلا، الذي كان رائدا في هذا المجال، يمثل مسارا تطوريا واضحا انتقل فيه من المنشورات الورقية إلى المؤتمرات الافتراضية والتصويت الإلكتروني، لكنه لم يواكب التطورات من حيث محتوى الخطاب.

وعلى خطاه، تأتي مبادرات أكثر حداثة من أحزاب الأغلبية الحالية؛ فحزب الاستقلال أعلن في يناير 2025 عن إطلاق "مناضلين رقميين" قائمين على الذكاء الاصطناعي، في خطوة تهدف لتعزيز حضوره الرقمي.

في المقابل، سبق أن وجه رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، في أبريل تعليمات مباشرة لأعضاء حزبه، التجمع الوطني للأحرار، بضرورة "أخذ الكلمة بصرامة" والحضور في المنابر الإعلامية والرقمية للتصدي لما وصفه بـ"التشويش" و"البوز السياسي" الذي تمارسه المعارضة.

هذه التحركات، التي تبدو ظاهريا كعلامة على الحيوية والتحديث، هي في جوهرها رد فعل على أزمة أعمق وأكثر تعقيدا.

إنها محاولة لمعالجة الشكل دون المساس بالجوهر المتآكل. وفي هذا السياق، يقدم المحلل السياسي محمد الشقير، في تصريح لجريدة "بلبريس"، تشخيصا دقيقا لأسباب هذا التآكل قائلا:

"ان تآكل هذه الثقة يرجع بالأساس إلى اندماج النخب الحزبية في مأدبة السلطة من خلال التكالب على المناصب و البحث عن الاثراء غير المشروع خاصة تلك النخب التي كانت في معارضة راديكالية للنظام كالنخب الاتحادية وبعدها نخب حزب العدالة والتنمية حيث تحول العديد من اطرها إلى أصحاب مشاريع عقارية وتجارة وغيرها مما افقد الثقة في كل شعارات النخب الحزبية بكل توجهاتها. ولعل مما زاد من تأكل هذه الثقة وفق شقير،  هو تورط عدة منتخبين في قضايا فساد وملاحظات قضائية.

بالإضافة إلى ذلك يرى الباحث في الشأن السياسي، ان خلود بعض الأمناء في مناصبهم القيادية ضدا على كل مباديء الديمقراطية الداخلية زاد من ابتعاد الشباب من الانضمام لهذه الأحزاب وعدم تصديق تصريحاتهم السياسية ووعودهم الانتخابية حيث غالبا ما يتم التأكيد بانهم لا يثقون الا في الملك كفاعل اساسي في هذه المنظومة السياسية.

ولفت شقير في حديثه مع بلبريس، إلى أن انتشار الخطاب الشعبوي وتمييعه للمشهد السياسي، عكس عقم النخب الحزبية في إنتاج خطاب سياسي يعكس انتظارات الاجيال الجديدة ومطالبهم، خاصة وان هذه النخب ما زالت تردد مقولات الوطنية والديمقراطية ومقولات أصبحت متجاوزة في الوقت.

وتابع شقير أنه من المفروض ان تتحول هذه الأحزاب من أحزاب وطنية إلى أحزاب مواطنة تركز على تنشءة سياسية تمكن من تكوين المواطن المغربي الذي ما زال لم يتبلور بعد،  وإشاعة ثقافة الفضاء العمومي الذي تقوم على أن الحرية مسؤولية وان الحق يلازم مع الواجب".

النتيجة، كما يوضح هذا التشخيص، هي مشهد سياسي معطوب. فالأحزاب تحاول مخاطبة جيل جديد بأدواته الرقمية، لكنها تقدم له خطابا قديما ومتجاوزا.

إن دعوة أخنوش للتصدي للتشويش هي اعتراف ضمني بأن الخطاب السائد قد تم تمييعه وتحول إلى شعبوية سطحية، وهو ما يعكس عجزا بنيويا عن إنتاج أفكار حقيقية تلبي انتظارات الأجيال الجديدة.

في المحصلة، فإن الاستثمار في "الرقمنة سياسيا" والمنصات التفاعلية سيبقى مجرد صدى في فراغ ما لم يواكبه تجديد حقيقي في الممارسة والأخلاقيات السياسية.

فالأزمة ليست أزمة تواصل أو تكنولوجيا، بل هي أزمة ثقة عميقة في النخب وفي جدوى العمل السياسي برمته.

وما لم تعالج هذه الأزمة من جذورها، ستظل الأحزاب تجري في سباق رقمي خاسر، بينما يواصل الشباب هجرته الصامتة بعيدا عن السياسة.