في صمت لافت، ومن دون ضجيج إعلامي يرافق عادةً اختراق أسواق جديدة، دخل القمح الكازاخي إلى الموانئ المغربية، حاملًا معه تساؤلات جوهرية تتجاوز مجرد عملية استيراد ظرفية.
فخلال الأشهر الخمسة الأولى من سنة 2025، استورد المغرب أكثر من 158 ألف طن من القمح من كازاخستان، وفق بيانات رسمية صادرة عن اتحاد الحبوب الكازاخي، وهي معطيات تعيد رسم الخريطة الاستيرادية للمملكة، وتثير سؤالًا أعمق: هل نحن أمام انفتاح ظرفي فرضته تقلبات السوق والمناخ، أم بداية تحوّل استراتيجي في سياسة المغرب الغذائية؟
عودة بعد انقطاع
ليست هذه المرة الأولى التي يطرق فيها القمح الكازاخي أبواب المغرب، لكنها الأولى منذ أكثر من 17 سنة، وكما أشار يفغيني كارابانوف، رئيس قسم التحليل في اتحاد الحبوب الكازاخي، فإن المغرب عاد هذا العام إلى قائمة مستوردي القمح من بلاده، بل وواصل تعزيز وارداته في شهر ماي وحده بكميات بلغت 47.5 ألف طن، ما يجعله بهذا الرقم، يتبوأ مكانة متقدمة في قائمة الأسواق الجديدة التي فُتحت أمام صادرات الحبوب الكازاخية، إلى جانب فيتنام، والنرويج، والإمارات، وغيرها.
وفي ظل توقعات بأن تبلغ صادرات كازاخستان الإجمالية 7.7 ملايين طن مع نهاية الموسم، فإن المغرب يبدو مستعدًا ليأخذ موقعًا دائمًا ضمن شبكة الزبائن التي باتت تراهن عليها كازاخستان لتقليص اعتمادها على الأسواق المجاورة.
اضطراب وبحث عن بدائل
التحول المغربي لم يأتِ من فراغ، فمع تصاعد الحرب الروسية الأوكرانية وتقلّبات اتفاقيات تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، وارتفاع الأسعار في السوق الأوروبية، بدا منطق تنويع الشركاء التجاريين أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
ففرنسا، التي كانت تاريخيًا أحد المزودين الرئيسيين للمغرب، لم تعد وحدها قادرة على تأمين حاجيات المملكة بكلفة مقبولة، خصوصًا مع تراجع المحصول المحلي هذا العام بشكل ملحوظ، بسبب الجفاف الذي وُصف بالأقسى خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة.
في هذا السياق، ظهر القمح الكازاخي كمورد بديل، لا ينافس في القرب الجغرافي، لكنه يتفوق في التنافسية السعرية، بفضل دعم حكومي سخي لنفقات النقل يصل إلى ما بين 300 و500 دولار أمريكي للطن الواحد، وفق بيانات رسمية كازاخية، مما ساهم في تخفيض كلفة الشحن، وأتاح للمصدرين الكازاخيين اقتحام أسواق بعيدة جغرافيًا، من بينها المغرب.
انفتاح أم تحوّل؟
من وجهة نظر اقتصادية، يصعب اعتبار هذه العملية مجرد صفقة ظرفية، فالكمية المستوردة كبيرة بما يكفي لتشير إلى اتفاقات تجارية تتجاوز الشحنة الواحدة، لا سيما في ظل إعلان شركة "برودكوربوراتسيا" الكازاخية المملوكة للدولة، في أبريل الماضي، عن توقيع اتفاقيات مبدئية لتصدير أكثر من 300 ألف طن من الحبوب إلى المغرب ودول شمال إفريقيا بنهاية الموسم.
هذه المعطيات تضع المغرب أمام لحظة مفصلية: هل يستمر في الرهان على الشراكات التقليدية التي أظهرت هشاشتها في أوقات الأزمات؟ أم ينسج شبكة جديدة من الشراكات تمتد نحو الشرق، وتُراكم الخبرة والمصالح المشتركة؟
تنويع الموردين
من الواضح أن استيراد القمح من كازاخستان ليس معزولًا عن التوجه العام الذي بدأ المغرب يكرّسه خلال السنوات الأخيرة، والمبني على تنويع الشركاء والحد من الارتهان لمحاور معينة، وقد شمل هذا التوجه قطاعات حيوية أخرى، مثل الطاقة (الغاز من نيجيريا، واللقاحات (شراكات مع الصين والهند)، والآن... الغذاء.
في زمن الأزمات المتداخلة، من المناخ إلى الجغرافيا السياسية، لا يبدو أن ضمان الخبز للمواطن المغربي يمكن أن يبقى رهانًا محليًا فقط أو أوروبيًا فقط، فدخول القمح الكازاخي إلى الدورة الاستهلاكية الوطنية هو خطوة أولى، لكنها قد تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التفكير الاستراتيجي في ملف الغذاء، لا تقل أهمية عن ملف الطاقة.
القمح الذي وصل هذا العام من سهوب آسيا الوسطى إلى موانئ المغرب ليس مجرد سلعة جديدة في السوق، بل هو مؤشر على مرونة مغربية في التعامل مع واقع دولي متغير.
فقد لا تكون كازاخستان بديلاً دائمًا، لكن التجربة تكشف قدرة الرباط على التحرك السريع في لحظة حرجة، وعلى إعادة توزيع أوراقها الاقتصادية بما يضمن الحد الأدنى من السيادة الغذائية، في عالم لا يرحم من يراهن على مصدر واحد.