روسيا تعيد هندسة وجودها في مالي: من "فاغنر" إلى "الفيلق الأفريقي"

إن  الانسحاب الرسمي لمجموعة "فاغنر" الروسية من مالي، وحلول "الفيلق الأفريقي" محلها، لا يعكس تراجعاً في النفوذ الروسي بالمنطقة، بل يمثل إعادة تموضع استراتيجي أكثر تنظيماً وعمقاً.

وبحسب محللين مطلعين على الملف المالي، فإن موسكو تسعى من خلال هذا التحول إلى إضفاء طابع "رسمي" على وجودها العسكري في القارة الأفريقية، خاصة بعد الاضطرابات التي شهدتها مجموعة "فاغنر" إثر تمرد قائدها يفغيني بريغوجين عام 2023.

تكثيف عسكري تحت مظلة رسمية

وثقت تقارير ميدانية حديثة وصول تعزيزات عسكرية روسية ثقيلة إلى الأراضي المالية خلال الأشهر الماضية، تضمنت دبابات من طراز T-72B3 وآليات BMP-3، إلى جانب أكثر من 50 مركبة مدرعة، مع نشر حوالي 2000 عنصر ضمن التشكيل الجديد للفيلق الأفريقي.

يتمركز عناصر مجموعة فاغنر في العاصمة باماكو ومواقع استراتيجية في وسط وجنوب البلاد، تحت إشراف ضباط روس رفيعي المستوى، أبرزهم نائب وزير الدفاع الروسي "يونس بك يفكوروف".

ووفقاً لمصادر أمنية إقليمية، فإن الفيلق الأفريقي يضم حتى الآن ما بين 40 إلى 45 ألف عنصر موزعين على خمس دول أفريقية، مما يجعله "عنصراً ثابتاً في معادلة منطقة الساحل" كما يصفه خبراء في الشؤون الأمنية الأفريقية.

موريتانيا: قلق متزايد من العسكرة الحدودية

 

تراقب نواكشوط هذه التطورات "بقلق بالغ" كما تشير مصادر دبلوماسية موريتانية، مدركة أن تفاقم الأزمة في مالي تجاوز كونه شأناً داخلياً ليصبح "عامل تهديد مباشر" على الأمن والاستقرار الحدودي الموريتاني.

يؤكد خبراء في الشؤون الأمنية أن موريتانيا، التي تمسكت منذ البداية بمبدأ الحياد وعدم الانخراط عسكرياً في نزاعات الجوار، تخشى من أن يؤدي "التدهور الأمني المتسارع في مالي" إلى انهيار سياسة التوازن التي تنتهجها منذ سنوات.

ويحذر محللون من أن الحدود الموريتانية-المالية قد تتحول "من مجرد خط جغرافي إلى خط تماس أمني" في ظل تعقد المشهد الأمني بين "فوضى الجماعات المسلحة، والتموضع الروسي الجديد، وصراع النفوذ الدولي المتكثف".

باماكو على حافة انقلاب جديد

تشير تقارير استخباراتية إلى أن العاصمة المالية تقف اليوم "على حافة انقلاب عسكري جديد" في ظل تفاقم التحديات الأمنية والسياسية. ويعزو مراقبون هذا الوضع إلى عوامل متداخلة تشمل "التقدم الجهادي، وانهيار تماسك الجيش المالي، والصراع بين الفرقاء السياسيين".

وتتحدث مصادر مطلعة عن احتمالات "تحرك من داخل المؤسسة العسكرية المالية" قد يحظى بدعم روسي-جزائري، وسط "صمت دولي ومباركة ضمنية من أطراف أزوادية".

موريتانيا: نموذج الحياد الإيجابي

في المقابل، برز النهج الموريتاني تحت قيادة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني كـ"نموذج فريد في إدارة العلاقة مع الأزمات الإقليمية"، وفقاً لما يصفه دبلوماسيون مطلعون.

واعتمد الغزواني، بحسب مصادر موالية له، "مقاربة تقوم على الحياد الإيجابي والتمسك الصارم بالقرار السيادي"، رافضاً "الانجرار إلى محاور دولية متقلبة" ومتجنباً "الزج بالمؤسسة العسكرية في حرب لا تخدم المصالح الوطنية".

تعقيدات الملف المالي ومستقبل المنطقة

يرى مراقبون أن "الوضع في مالي معقد بطبيعته ويصعب اختزاله في طرفين أو ثلاثة"، نظراً لتداخل المستويات المحلية والإقليمية والدولية في الصراع.

ويؤكدون  أن انزلاق مالي نحو "فوضى جديدة" يعني "تدفق موجات لاجئين، واحتمال تسلل جماعات مسلحة نحو الحدود، وتحوّل الفضاء الحدودي الموريتاني-المالي إلى منطقة اضطراب دائم".

ويتساءل مراقبون: "هل حان وقت خروج نواكشوط من مقعد المتفرج إلى دائرة الفعل؟ أم أن الهدوء الموريتاني جزء من خطة أطول نفساً تفضّل التأني على المغامرة؟"

ويرى مراقبون أنه بينما تواصل باماكو فقدان "أدواتها الواحدة تلو الأخرى" وتجد نفسها "محاصرة شمالاً وجنوباً"، تتقدم نواكشوط بهدوء كـ"قوة استقرار إقليمي"، مؤكدة أن "السيادة لا تُشترى، وأن الحكمة أبلغ من الرصاص".