ليس دفاعا عن أخنوش أو عن وهبي بل تنبيها لإنحدار الخطاب السياسي ولمأزق التواصل السياسي

أقول بداية، يركز هذا المقال على تواصل وخطاب الفاعلين- كمؤسسات وليس كأشخاص في حد ذاتهم - خصوصا بعد أن تحول الخطاب والتواصل السياسي اليوم بالمغرب لحلبَة صراع يهيمن عليها العنف اللغوي والقساوة الدلالية.

هناك، شبه إجماع - اليوم- بأن الخطاب السياسي والتواصل السياسي بالمغرب يمران بأسوأ مراحلهما حيث يعرف السوق التواصلي والخطابي بمفهوم بيير بورديو Bourdieu Pierre انحدارًا غير مسبوقا في خطابات وتواصل الفاعلين السياسيين .

سياق هذا الكلام، هو خرجة بنكيران نهاية الأسبوع الماضي ، وما أثارته من جدلٍ على إثر ما قاله الأمين العام لحزب العدالة والتنمية الحالي ورئيس الحكومة سابقا بنكيران في حق رئيس الحكومة عزيز أخنوش ووزير العدل عبد اللطيف وهبي الحاليين.

ما صرح به بنكيران في حملة انتخابية ضد رئيس حكومة وضد وزير العدل يؤكد أنَّ اللغة الموظفَة في كلامه موغلةٌ في النرجسيَّة، ومدمرة للعلاقة الجدليَّة المفترضة بين اللغة السياسية والأخلاق السياسية والمسؤولية السياسية.

علاقة لخصها العالم Paul corcoran في جملة ذات دلالات عميقة مفادها أن السياسة كلام وليس كل الكلام سياسة.

ومن هذا المنطلق ، نقول ما قاله بنكيران مؤخرا في حق رئيس الحكومة ووزير العدل أعاد علاقات التواصل السياسي بالسياسة للواجهة، والأكيد أن ضبط الجسر الرابط بين السياسة والتواصل السياسي من شأنه تحديد نوعية الثقافة السياسية السائدة ومستوى الفاعلين السياسيين لكون التواصل السياسي كينونة سياسية تتحول مع الفاعل السياسي الى آليات ترفع شأن السياسة ونخبها ومؤسساتها أو تسيء إليهم جميعا.

ويشهد تاريخ التواصل السياسي والخطاب السياسي بالمغرب أن الفاعلين السياسيين- حتى في أحلك المراحل- لم يصلوا الى مستوى ما وصل اليه التواصل السياسي اليوم من انحدار ورداءة وعنف، وهذا ما يجسده هجوم بنكيران على رئيس الحكومة ووزير العدل، حيث تجارز هذا الهجوم كل حدود الأخلاق واللياقة السياسية والمسؤولية الأخلاقية التي يجب أن تتوفر في فاعل سياسي وأمين حزب إسلامي ورئيس حكومة سابق .

لغة خطاب بنكيران اتجاه أخنوش ووهبي فاقدة لكل مرجعية سياسية، لغة غارقة في مأزق الإنحدار، لغة بعيدة كل البعد عن اللباقة والأناقة اللغوية والدلالية، لغة فقد معها الفكر السياسي كل مرجعياته المبدئية واليات منهجيته الإجرائية، وفقدت معها السياسة رقي العلاقات الجدلية الخطاب السياسي وبين الأخلاق.

ولا يختلف اثنان على أن أزمة التواصل هي العنوان الأبرز للتواصل السياسي بالمغرب اليوم، هذا الشكل من التواصل ولد الكثير من الخيبات والصدمات والنكسات لدى المواطن وأساء الى السياسة ذاتها، والأكيد أن نزول التواصل السياسي إلى هذا المستوى يبرهن على عدم وعي الفاعل السياسي سواء كان وزيرا أو برلمانيا أو مسؤولا سياسيا بأهمية التواصل السياسي في صناعة الفعل السياسي وتوجيهه، بل إنه لم يقتنع – بعد- باستحالة ممارسة السياسة دون خطاب أو تواصل سياسي راق وأنيق لكون الخطاب السياسي في فضاء السياسة يبقى هو صانع الفعل السياسي عند الرأي العام.

نقول هذا الكلام لاقتناعنا على أن عالم السياسي هو عالم الخطاب والتواصل، وهما ما يجعل من التواصل السياسي مرآة حقيقية لنوعية الثقافة السياسية السائدة ولمستوى الفكر السياسي للنخب.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن للخطاب أو التواصل السياسي تجاوز مستوى النخب السياسية وطبيعة المؤسسات الدستورية القائمة وعلاقاتهم بالسياق العام ، فهي تظل -في كل الحالات- خاضعة لمنطقه ولشروطه ، مما يحتم على التواصل السياسي أن يتفاعل مع هذا السياق، هذا الاخير الذي وصل الى درجة لا تحتمل من العبث السياسي، تحول معها الخطاب السياسي الى خطاب أزمة أخلاقية وسياسية وتعاقدية فاقدا للحد الأدنى من أسس العقلانية ومبادئ الديمقراطية، بل أن هذا العبث السياسي الذي يعيشه المغرب فيه الكثير من المؤشرات على أن السياسة والتواصل السياسي الممارسين اليوم هما في مأزق انطولوجي حيث العنف اللفظي هو انعكاس لعنف رمزي يمارسه الفاعل السياسي على ذاته قبل ممارسته على المواطن.

والأكيد أن مستوى التواصل السياسي أو الخطاب السياسي قد يزداد رداءة وانحطاطا في خطابات بنكيران، لأنه ما زال لم يفهم بعد كون التواصل السياسي هو الوجه الآخر للسياسة، وأنه لن يحذق في السياسة ويمارس سلطاتها بمهنية من لم يتقن لعبة اللغة السياسية وسلطاتها.

وعليه، ففي الوقت كان المواطن ينتظر فيه رقيا على مستوى الخطاب والتواصل وفق ما ينص عليه الدستور الجديد، ها هو يصدم بتوظيف الفاعل السياسي كلاما ساقطا واستعمال كلمات نابية في حق رئيس الحكومة ووزير العدل، الأمر الذي جعله يقتنع بأن هيمنة الانحطاط اللغوي في الخطاب أو التواصل السياسي المغربي ليس بظاهرة عابرة بل إنه يجسد نسقا فكريا و بنية مجتمعية قائمة، وبمعنى آخر أن انحطاط الخطاب أو التواصل السياسي هو انعكاس لشروط انتاجه كما يؤكد ذلك الباحث بيير بورديو (P.BOURDIEU . وهو ما يعني أن شروط الإنتاج تظهر في تشكيلة الخطاب، أي في مادته اللغوية، وهو ما أكده أيضا ميشال فوكو عند حديثه عن أهمية ضبط شروط الإنتاج وعلاقاتها بالخطاب، وعليه فالخطاب السياسي هو فضاء يعكس شروط إنتاجه من جهة، ويعكس مستوى منتجه. .

ومن المؤسف – اليوم- أن أغلبية النخب السياسية المغربية ما زالت لا تفهم ان الخطاب السياسي هو شكل من أشكال العمل السياسي يصعب تطويره بدون توفر الفاعل السياسي على تنشئة وثقافة سياسية ديمقراطية، و تشبع بالأخلاق السياسية والتزام بالتواصل الديمقراطي، وهذه أحد أسباب تدني الخطاب أو التواصل السياسي اليوم في زمن سياسي أقل ما يوصف بالزمن الرديء بكل المقاييس.

وتشير العديد من الأبحاث والدراسات أن استمرار الأحزاب والمؤسسات والفاعلين السياسيين في إنتاج التواصل والخطاب السياسي الرديء والتراشق بالألفاظ الساقطة وتبادل التهم المجانية والتشكيك والتخوين والتجريم والتجريح والضرب تحت الحزام يعد أخطر ما يهدد مستقبل المغرب، ويهدد كل الاوراش الإصلاحية الكبرى التي يعيشها، إنه أحد أفتك أدوات قتل السياسة وانتحار الفاعل السياسي ذاته، وأخطر آليات وتمييع مجال التواصل السياسي لأن ما وصل إليه التواصل السياسي من الرداءة والانحطاط غير مسبوق في التاريخ السياسي المغرب.

أعتقد أن الشعب المغربي يؤمن اليوم أن زمن الطوباوية التواصلية قد ولى لكن الواقع المعيش يؤكد أن الطوباوية التواصلية تقوت وأصبحت الوجه الأبرز للخطاب والتواصل السياسيين خصوصا في زمن هيمن عليه فاعلون سياسيون متفننون في التواصل الشعبوي الماكر .

ولهؤلاء نقول للفاعلين الشعبويين ... أنتم عابرون في زمن عابر، ولتعلموا أن للثقافة السياسية المغربية حساسية بالغة اتجاه اللغة السياسية ذات السمو اللغوي حتى في أشد لحظات الأزمات، فلن تكونوا أنتم مرجعية التواصل السياسي المغربي لأن له مرجعيات هي : خطابات محمد بن العربي العلوي وعبد الخالق الطريس ومحمد بن الحسن الوزاني والمختار السوسي والمكي الناصري وأبو بكر القادري وعلال الفاسي والمهدي بن بركة عبد الرحيم بوعبيد عابد الجابري حيث قمة الوعي بسلطة اللغة في مجال السياسة، وقمة المعرفة العميقة بضوابط الخطاب السياسي وقوانينه ارتقت اللغة السياسية في خطاباتهم الى قمة السمو اللفظي والدلالي وتحولت معهم الى آلية لتهذيب الذوق اللغوي ولتوجيه للرأي العام حول قضايا الوطن..

وحذاري من الاستمرار في تلويث التواصل السياسي بعد تلويث العمل السياسي لأن التكلفة ستكون باهضة لكون التواصل السياسي هو صانع الحدث والفاعل في السياسة والموجه للرأي العام والمهذب للذوق اللغوي العام.

وصدق من قال  ...العقول الكبيرة تناقش الافكار، العقول المتوسطة تناقش الاحداث، العقول الصغيرة تناقش الاشخاص


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.