قال نابوليون بونابرت: "الصين مارد نائم، اتركوه يغط في نومه، لأنه إذا استيقظ هز العالم"، وقال عنها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون: "لقد تحملت أقصى كوارث القرن العشرين، وستصبح إحدى أبرز دول العالم في القرن الواحد والعشرين...، فنحن نتعامل مع أمة بدأت تتحس طريقها إلى العالم المعاصر، وغدا ربما يتعامل أحفادنا مع دولة قد تكون المسيطرة على العالم ".[1]
لم تهز الصينُ العالمَ فحسب، لكنها هزت اقتصاد القوة العالمية الأولى، التي وقفت في وجه أعتى القوى العالمية، في القرنين الماضيين، وأسقطت أنظمتها بتقاطباتها وتحالفاتها، من الحروب العسكرية إلى الباردة إلى التجارية، وتحكمت في حالات السلم والحرب، ووجهت مسار السياسة الدولية، ثم تربعت على عرش الاقتصاد.. وقفت في وجهها بلاد كونفشيوس لتخاطبها خطاب الند لنده، وهو ما أظهرته الحرب الاقتصادية الحالية، بعد أن أرخت بظلالها على واقع العلاقات الصينية الأمريكية، معلنة اخضرار عود التنين الأسيوي، واليقظة التامة للمارد النائم.
تختلف المسارات والسبل بين الصين.. التي ارتمت في أكناف الشيوعية، ونهل قادتها التاريخيون من مشارب ماركس وإنغلز، ودخلت مخاضا عسيرا من الماوية إلى التحديث إلى البحث عن غزو الأسواق.. والولايات المتحدة الأمريكية، التي بحثت عن فرض نفسها كقوة عظمى A superpower، [2]وقطب واحد، يحمل مشروع الزعامة العالمية، ويخط الاستراتيجيات والتوجهات والدراسات، لتحافظ على مكانتها ومصالحها. فالتقى اختلاف المسارات في تطاحنات الاقتصاد، ليفرز حربا "ضروسا"، اندلعت معها معارك فرض الرسوم الجمركية على الواردات.
لقد اندلعت الحرب الاقتصادية، رسميا في يوليوز 2018، بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية على الواردات الصينية، لترد الأخيرة بفرض إجراءات مماثلة، فتدحرج تدبير الأزمة بين المفاوضات السرية وحرب التصريحات المتبادلة، فطرحت على العالم إشكالية: كيف يمكن أن تتحول الحرب الاقتصادية بين واشنطن وبيكين إلى صراع قطبي حول الزعامة؟
أمريكا والصين.. هيمنة اقتصادية ومسارات مختلفة
تدعو الحرب الاقتصادية الحالية بين واشنطن وبيكين، إلى العودة السريعة لأبرز محطات العلاقات بينهما، والتي تباينت حسب وضع الدولتين، وحسب أجنداتهما، وخضعت لمنطق المصلحة أكثر من أي محدد آخر، ثم المسارات المختلفة للقوتين الاقتصاديتين اللتين تتنافسان على زعامة الاقتصاد العالمي.
أولا: كرونولوجيا العلاقات بين واشنطن وبيكين
تعود العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى عام1844م، حيث تم توقيع معاهدة وانجيا، وهى أول معاهدة بين الطرفين، نصّت على منح الأمريكيين مختلف الامتيازات والحصانات في الصين.
وتأثرت العلاقات الصينية الأمريكية بمجموعة من المتغيرات بعضها دولي، وأغلبها أمريكي، يحددها الرئيس الذي ولج أبواب البيت الأبيض. يمكن حصر أبرز محطاتها في الأحداث التالية:
- الرئيس الأمريكي روزفلت، يقدم مساعدات غذائية ضخمة للصين، خلال المجاعة الكبرى فى أواخر العشرينات من الألفية السابقة، ودعمها ضد اليابان في المحيط الهادي خلال حربهما.
- سياسة العزلة التي تبناها ماوتسي تونغ، بعدإعلان تأسيس جمهورية الصين الشعبية، في أكتوبر1949، ومساعدتها للشيوعيين الفيتناميين ضد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ومناهضة التطبيع معها، لترد الأخيرة بسياسة تطويق الصين.
تصدع التحالف بين الصين والاتحاد السوفيتي بين عامي 1959 و1963.[3]
الزيارة التاريخية للرئيس ريتشارد نيكسون إلى الصين في 1972، ولقاؤه بالرئيس ماوتسي تونج لإرساء أسس التفاهم بين البلدين، من خلال توقيع "بيان شنغهاي"، الذي أعلن دخول العلاقات في حالة السلم والتعاون.
جمد الرئيس جورج بوش الأب، العلاقات مع الصين، واتخذ سلسلة من الإجراءات العقابية ضدها، عند اندلاع مظاهرات "تيانان مين" عام 1989، وما صاحبها من قمع المتظاهرين الرافضين لسياسة اقتصاد السوق.
وصف الرئيس جورش بوش الإبن الصين بالمنافس الاستراتيجي، لكن هجمات 11 شتنبر غيرت توجهات الولايات المتحدة الأمريكية، نحو الحرب على الإرهاب، فعاد الرئيس باراك أوباما إلى إعادة بناء علاقته بالصين ليجدها قوة اقتصادية كبرى، فاختار التعاون والمصلحة المشتركة بدل الصراع.
أعلن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، حربا اقتصادية، على الصين، من خلال فرض رسوم جمركية على المنتجات الصينية، بلغت قيمتها 25%، فردت بيكين باتخاذ تدابير مماثلة، وهو ما ينذر بدخول نفق جديد مظلم في العلاقات بين البلدين.
ثانيا: الزعامة الاقتصادية الأمريكية والمعجزة الصينية
- أمريكا- ترامب واستراتيجية الهيمنة
تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية، الترتيب الاقتصادي لدول العالم، باعتبارها القوة الاقتصادية الأولى من حيث الناتج المحلي الإجمالي، الذي بلغ سنة 2017، قيمة 19.377.203 (مليون دولار)، نسبة زيادة تقدر بـ 815.269 (مليون دولار)، عن سنة 2016 التي سجلت الولايات المتحدة الأمريكية 18.561.934.[4]
ومع بلوغ الرئيس الحالي دونالد ترامب سدة الحكم في يناير/كانون الثاني 2017، أثيرت تساؤلات عديدة حول تغيير المنظور الاستراتيجي الأمريكي، وتعامل إدارة ترامب مع مختلف الملفات، بالنظر إلى تصريحاته التي أثارت جدلا واسعا، فجعلت العالم يترقب قرارات رئاسية أمريكية أكثر جرأة، ما ينذر بحدوث تغييرات جمة على واقع السياسة الدولية.
لقد وعد الرئيس ترامب الأمريكيين، في أول خطاب له بـ"تغيير مسار التجارة الدولية لصالح أمريكا"، وهي إشارات واضحة على اتخاذ تدابير جديدة تحفظ القوة الاقتصادية الأمريكية، وتمهد للحد نسبيا من التقدم السريع الذي تعرفه القوى الأسيوية الصاعدة، وفي مقدمتهم الصين.
وتظهر تأثيرات أطروحة صدام الحضارات، لصامويل هنتغتون، على صانع القرار الأمريكي، التي يؤكد فيها أن استمرار حياة الغرب تعتمد على الأمريكيين، والعمل على تحصين الحضارة الغربية ضد التحديات التي تفرضها الحضارات الأخرى، في نطاق عالمي أساسه التنوع الحضاري، معتبرا أن دعاوى العالمية والإنسانية التي تطرحها الحضارة الغربية، تجعلها في صراع متزايد وبشكل أكثر خطورة مع الحضارة الإسلامية والحضارة الكونفشيوسية الصينية. وأضاف هنتغتون، أن النفوذ الغربي يواجه خطر توسع القوى الاقتصادية والعسكرية والسياسية الآسيوية من جهة، والانفجار الديمغرافي للحضارة الإسلامية، والمصحوب بنتائج عدم الاستقرار في الدول الإسلامية من جهة أخرى.[5]
- الصين معجزة القرن الاقتصادية.. استيقظ "المارد النائم"
خرجت الصين من عزلتها، نهاية القرن الماضي، محملة بردود أفعال سنين القمع الاستعماري الغربي والياباني، والصراعات الطبقية والعقائدية، والحصارات والاضطهادات، فكانت بوتقة للفوضى والثورة والمعاناة، والتحولات السياسية والإيديولوجية.. من ملكية عريقة، إلى جمهورية وليدة، ثم إلى أكبر دولة شيوعية، لتصبح قوة اقتصادية تسعى لاقتسام الزعامة مع الولايات المتحدة الأمريكية.[6]
فالصين هي الأولى في العالم من حيث السكان، والثانية من حيث المساحة، والثالثة من حيث القدرات العسكرية والنووية، وتقترب أكثر فأكثر من أن تصبح أكبر الدول الصناعية في العالم. كما تحقق معدلات سنوية جيدة في مؤشرات التنمية، التي تزداد بسرعة(10 % سنويا) منذ مطلع الثمانينات، كما أصبح الاقتصاد الصيني الأول في العالم من حيث الاستثمارات الخارجية. واحتلت الصين المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة الأّمريكية، بناتج محلي إجمالي بلغ 12.361.373 (مليون دولار) سنة 2017، بزيادة قدرها 970.118 (مليون دولار) عن سنة 2016،
التي سجلت فيها رقم 11.391.619 (مليون دولار). [7] ويتوقع خبراء الاقتصاد تجاوز الصين للولايات المتحدة الأمريكية، إذا ما استمرت في نفس الوتيرة بحلول عام 2020.
لقد توجهت الصين نحو الحفاظ على، ما يسميه الصينيون، باقتصاد السوق المشترك، أي التفاعل مع اقتصاد السوق، والحفاظ على دور الدولة التدخلي والتوجيهي مع تقوية القطاع الخاص، والذي مكنها من أن تشهد أسرع نمو اقتصادي في التاريخ. فكثيرة هي العناصر التي تحكم عملية التطور في الصين، كقياس مدى نجاح الحزب الشيوعي الصيني في تخطي العائق الإيديولوجي، والحاجة إلى خطاب جديد لمواكبة التحدي الاقتصادي، وتدبير شساعة الفوارق الاقتصادية على الصعيد الداخلي بين المدن ومناطق تعتبر خارج عملية التنمية.[8]
إن التجربة الصينية لم تقم على أساس تحول ديمقراطي يشمل البعدين السياسي والاقتصادي، على حد سواء، بل جاء التغيير ليشمل الجانب الاقتصادي دون السياسي، وهو ما ساهم في الحفاظ على الاستقرار السياسي، الذي احتضن التحول التدريجي نحو اقتصاد السوق، والالتحاق بالقوى العظمى الاقتصادية.[9]
الحرب الاقتصادية.. الأسباب والتداعيات
اندلعت الحرب الاقتصادية، رسميا، بين واشنطن وبيكين، في يوليوز/تموز 2018، بعد الدخول في معركة رفع الرسوم الجمركية على واردات كل منهما، ليضطر الطرفان إلى دخول مفاوضات، عرفت بدورها معارك دبلوماسية خفية تارة، والعودة إلى حرب التصريحات تارة أخرى، ومن
المؤكد أن صراع بيكين- واشنطن، ستكون له تأثيرات محتملة على السياسة الدولية، تخرج عن حدود عالم الاقتصاد والتجارة.
أولا: بين إعلان ترامب ورد بيكين
أعلن الرئيس دونالد ترامب، في يوليوز 2018، فرض رسوم جمركية على الواردات الصينية، بنسبة 25%، تقدر قيمتها بـ34 مليار دولار، مبررا موقفه بالممارسات التجارية غير النزيهة التي تقوم بها الصين، متهما شركاتها بسرقة الملكية الفكرية، مع إضافة 10 %، تبلغ قيمتها 16 مليار دولار من المنتجات، لترد بيكين بفرض رسوم جمركية، أخرى مماثلة بنفس قيمة تلك التي فرضتها إدارة ترامب، ولما تنتهي بعدُ ردود الأفعال.[10]
فالملاحظ أن الصين لا تتوانى في الوقوف ندا للولايات المتحدة الأمريكية، واتخاذ إجراءات انتقامية مماثلة، مما يعني أن العالم انقسم إلى قطبين اقتصاديين، يتصارعان بإمكانيات اقتصادية متقاربة، عبرا عن استعدادهما للذهاب في حربهما إلى أبعد مدى، وعدم رضوخ أي طرف للطرف الآخر.
وتتأكد هذه القطبية، برفض الصين الاستمرار في التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية، تحت الضغط، و"السيف مسلط على رقبتها"،[11] مطالبة بمفاوضات تجري في أجواء ندية.. وهو ما كانت تخشاه الاستراتيجيات الأمريكية.
ثانيا: التداعيات المحتملة للحرب الاقتصادية
إن أولى تداعيات هذا الصراع، هو تباطؤ وتيرة نمو قطبي الاقتصاد العالمي، وهي فرصة سانحة لليابان، لتحقيق أرقام اقتصادية جديدة، وقد تتصدر قائمة الاقتصاد العالمي، إذا ما استمرت هذه الحرب الضروس.
وأثارت توقعات صندوق النقد الدولي، للنمو الاقتصادي العالمي لعامي 2018 و2019، في أكتوبر/تشرين الأول، هذه الحرب الاقتصادية، فاعتبرت أن التوترات في مجال السياسة التجارية وفرض تعريفات جمركية على الواردات، أثرا سلبا على التجارة، فتوقعت نموا عالميا، في حدود 3.7 في المئة في كل من 2018 و2019 بتراجع عن توقعات يوليوز/تموز، بأن تبلغ نسبة النمو العالمي 3.9 في المئة، لكل من العامين.[12]
لقد أكد كيفين رود، رئيس وزراء أستراليا الأسبق والخبير في الشؤون الصينية، أن "العالم أمام بدايات حرب من نوع مختلف، حرب استثمارية وحرب تكنولوجية بين القوتين العظميَيْن للقرن الـ21".[13]
ومن المرتقب أن تبحث الولايات المتحدة والصين، عن أسواق جديدة لتعويض الخسارة، مما يعني البحث عن تقاطبات جديدة، وممارسة كل منهما ضغوطات على حلفائه لفرض رسوم على الطرف الآخر، وهو ما ينذر باندلاع الحرب الباردة الثانية، البعيدة من الإيديولوجيات والقريبة من الاقتصاد والأرقام والمعاملات، ولعلها ستكون حربا أشرس من سابقتها.. تنهار فيها أنظمة اقتصادية، وتُغير خريطة السياسة الدولية... !