سخرت نعيمة زليكة، رئيسة جمعية بوشعيب زليكة الثقافية لأصالة فن العيطة، نفسها، على مدى عقدين من الزمن، لإحياء هذا اللون الشعبي، مستلهمة إرث والدها الفنان الشعبي بوشعيب ازليكة لتصنع درعا منيعا للدود عن حمى فن "العيطة"، وللحفاظ عن أصالته، تقديرا لهذا الموروث الشفهي، الذي شكل خلال فترة الاستعمار الفرنسي إحدى ساحات النضال الوطني.
ولتثمين هذا الرأسمال اللامادي، الذي ورثته عن والدها (1922-1973 )، الذي كان ضمن مجموعة بوشعيب البيضاوي والمارشال قيبو، والذي تشبعت به منذ نعومة أظافرها، اختارت سبيل العمل الجمعوي، مشتغلة على ما تداوله آنذاك العديد من الفنانين والفنانات الأعلام، الذين سخروا ما احتوته إبداعاتهم الموسيقية والغنائية من كلمات ورموز وإشارات، لإذكاء روح الحماسة الفياضة، ولحشد الهمم دفاعا عن الوطن وصدا لمختلف مظاهر الظلم والجور.
وبعيدا عن "الفورة" التي يعرفها الوضع الفني الموسيقي في الوقت الراهن، حيث اختلط الغث بالسمين، والضعيف بالراقي برأيها، تؤكد السيدة زليكة بكل عفوية أن "العيطة" كما يدل على ذلك اسمها هي دعوة نبيلة ورسالة هادفة تروم خلق نوع من التفاعل الإيجابي بين مؤدي هذا اللون الشعبي وعشاقه، رغبة في السمو به بعيدا عن الألفاظ الماجنة والميوعة، كصورة نمطية أضحت لصيقة بهذا الفن الذي يبقى أحد أهم أركان الثقافة المغربية الأصيلة.
ورفعا للحيف والإقصاء والتهميش الذي لحق بفن "العيطة" انطلاقا من النظرة الدونية والمجانبة للصواب، فقد بادرت في 2004 إلى تعبئة عدد من الشركاء لإخراج أول نسخة من مهرجان "أصالة فن العيطة بالدار البيضاء"، الذي تمخضت عنه في 20 شتنبر 2005 فكرة تأسيس "جمعية بوشعيب زليكة الثقافية لأصالة فن العيطة"، غايتها رد الاعتبار للفنانين الرواد وإعطاء نفس قوي وإشعاع كبير للمباردات الهادفة إلى صون هذا الفن الابداعي العريق.
ولهذا الغرض، بادرت إلى تقديم أطباق فنية أصيلة، وتنظيم ندوات فكرية وعلمية تتمحور مواضيعها حول فن العيطة بألوانها المتنوعة، بما فيها المرساوية والحصباوية والحوزية وغيرها.
وبالرغم من أثر الزمان عليها، إلا أن عزيمتها ما تزال قوية، تصارع الألم، وتدب بخطى حثيثة وثابتة من أجل مواصلة المشوار، وكلها أمل في جعل دورة مهرجان هذه السنة في نسخته 16 ترفع رهان كسب تحدي تصحيح المفاهيم والرؤى التي التصقت خطأ وجورا بهذا الفن الشعبي، اقتداء بما خلفه أهرامات فن العيطة بالمغرب في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، من قبيل المارشال قيبو وبوشعيب البيضاوي، وكذا بوشعيب زليكة الملقب ب"رمسيس العود" حيث كان له فضل تثبيت تقاليد العزف على هذه الآلة الموسيقية الكلاسيكية في فن العيطة.
وتشير زليكة، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن أهم إنجاز تحقق بفضل الجمعية، قيامها سنة 2008 بإنشاء مدرسة لتكوين الشباب وتلقين أصول فن الموسيقي - الغنائي ، المصنف ضمن التراث اللامادي للمغرب، وذلك على يد باحثين ورواد في فن العيطة كالفنان المرحوم المصطفى البيضاوي ممن تشربوا هذا الفن من أصوله وينابعه وروافده المتشعبة.
وإسهاما في الإلمام بجميع مكونات هذا الفن ومدارسه المتنوعة والمتباينة، فالجمعية أخذت على عاتقها تتويج سهرات دورات مهرجانها السنوي بحفل فني يشارك فيه خريجو هذه المدرسة الواقع مقرها بمندوبية وزارة الثقافة بلارميطاج- الدار البيضاء، وذلك لتعزيز المدارك النظرية والتطبيقية بالاحتكاك بزمرة من الرواد الذين شقوا طريق الابداع بحرفية عالية وتمكن كبير إلى أن سطع نجمهم في الساحة الفنية بمساهماتهم التي تستدعي تظافر جهود الجميع من أجل النهوض بمكوناتها.
وسيرا على هذا النهج، تعد الجمعية لإخراج إصدار جديد لم تكتمل ملامحه بعد، تكريما لروح والدها الفنان بوشعيب زليكة، وذلك من خلال النبش في ذاكرته التاريخية، للتعريف بجوانب من حياته في بعدها الإنساني والإبداعي، تؤثثها باقة من الصور ومقطوعات العيطة التي بصمتها أنامله، فضلا عن جملة من الندوات الفكرية والعلمية التي نظمتها الجمعية لإطلاع العموم والأجيال الصاعدة عن مكنون هذا الفن الذي أضحى يسترعي اهتمام عشاق من مختلف الآفاق، من هواة الموسيقى والتراث الشفهي واللامادي.
ومن خلال هذا الجهد، تأمل نعيمة زليكة في أن تكون قد أوفت، ولو بجزء ضئيل، مما أسدته الأجيال السابقة من خدمات جليلة لهذا الفن التراثي الأصيل، وذلك من خلال نخبة من الطاقات الشابة خريجي المدرسة الذين أخذوا على عاتقهم تسلم المشعل لحماية العيطة من الشوائب والاندثار، وجعلوا من دورات مهرجان العيطة الذي يدشن هذه السنة حلقته 16 فرصة سانحة للاحتكاك والتلاقح بين الأجيال من رواد ومواهب شابة.