المنظومة التعلمية قاعدة لبناء جيل العطاء لما بعد كورنا

 تقوم التنمية بشكل عام على استثمار الطاقات والقدرات المادية والبشرية المتاحة لتحقيق رفاهية المجتمع والرفع من مستوى إنتاجية البلد، وذلك نظرا لكونها عملية شاملة ومتكاملة يتوقف نجاحها على ما ينجزه الإنسان من جهد متعدد الجوانب والأشكال، و يعتبر التعليم دعامة أساسية للتنمية البشرية(مكون أساسي في التنمية العامة) التي تهدف الى توسيع الخيارات المتاحة للناس، ومنه فتأهيل المنظومة التعليمية تساهم أساسا في بناء جيل العطاء والبناء  وتساهم في الرفع من مستوى الإنتاجية الاقتصادية إضافة الى تحسين تدبير الشأن العام ورفع  مستوى النقاش السياسي.

  • المنظومة التعليمية أساس للرفع من مستوى التنمية الترابية

لا يختلف اثنان على أن إشكالية التنمية بالمغرب منذ عقود الى الوقت الراهن، تكمن في نظم التعليم ومنهجيته وفلسفته ومقاصده واستراتيجياته، ومنه فهذه العناصر تشكل ميكانيزمات رئيسية تحدد مدى قدرة المنظومة التعليمية على خلق جيل البناء والعطاء والتنمية الحقيقة، طبعا يمكننا الجزم والتأكيد على أن الإقلاع في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يخرج عن نطاق المنظومة التعليمية، وذلك باعتبار التجارب الوطنية والدولية أتبثث بالملموس أن نهوض الأمم وتقدمها وارتفاع مستوى قطاعاتها يرتبط أشد الارتباط بمخرجات المنظومة التربوية لهذه البلدان، فالجميع يعرف أن الدول المتقدمة والقوى الاقتصادية الكبرى، وحتى القوى الاقتصادية الصاعدة قد استندت في تصديها لمختلف التحديات - مهما اختلفت مجالاتها  في مسيرتها التنموية نحو تحقيق التقدم والازدهار- على التعليم باعتباره يشكل الوسيلة الأساسية نحو تحقيق الأهداف المنشودة، إن الضرورة اليوم تفرض علينا تبني التعليم والمعرفة أكثر من أي وقت مضى، باعتباره المدخل السليم والوسيلة الأنجع لتجاوز مختلف الصعوبات والتحديات التي تواجهنا في الوقت الراهن، والتي يمكن أن تقف مستقبلا حجر عثرة أمام الوصول الى المغرب المنشود.

إن وضع العالم اليوم أبرز لنا بوضوح أن سبيل النجاة، ومدخل التنمية الحقيقية قائم بالأساس على تنمية الطاقات البشرية بشتى الطرق والوسائل، ونخص بالذكر باب التربية والتعليم وذلك لقدرته على تكوين وتأهيل الأفراد لخدمة مجتمعهم وتحقيق متطلباته الاجتماعية والاقتصادية.

لا يمكننا الاختلاف عن أن المجتمع المتعلم هو الأكثر إنتاجية على مختلف المستويات، وهو ما يفرض ضرورة الاستثمار الحقيقي في التعليم هذا الاستثمار الذي يعتبر طويل المدى، يتحكم في مختلف استراتيجيات ومخططات ومشاريع وبرامج التنمية بمختلف مجالاتها، ومنه فلا يجب علينا قياس الاستثمار في التعليم بالعائد المباشر فيه، بل يجب النظر الى الفوائد والأرباح التي لا تعد ولا تحصى والتي تكون نتيجة لإعطاء افراد المجتمع المغربي فرصا متزايدة من التعلم، حتى تبرز  وتصقل قدراتهم للمساهمة في الوصول الى المغرب المنشود، وهو ما يجعل قطاع التعليم  قطاعا من بين القطاعات الاستراتجية بل المصيرية، فإذا حَسُن الاستثمار فيه وتم توجيهه بذكاء ضمن استراتجية حقيقية بعيدة المدى ذات فلسفة ومنهجية ومقاصد تروم بالأساس الوصول الى المغرب المنشود فطبعا سنصل اليه، والعكس صحيح فالماضي والواقع أتبث ذلك، فالعواقب ستكون وخيمة إذا لم تعطى للقطاع التعليم المكانة التي يستحقها، إن المغرب اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى  مطالب بالتصدي للكثير من الصعوبات والتحديات إن هو فعلا أراد تحقيق نمو وتطور اجتماعي واقتصادي وسياسي بل وحضاري، إن التحديات والصعوبات التي تواجه المغرب آنيا ومستقبلا تقتضي اكتساب عوامل النجاح في ظل صراع حضاري تفرضه معطيات العصر.

  • الإقلاع الاقتصادي رهين بتأهيل الطاقات البشرية

يمكننا الجزم باعتبار أن التعليم يشكل قطب رحى النمو الاقتصادي، وذلك باعتبار التأهيل البشري والذي يتجلى بالأساس في مستوى التعليم، يشكل قاعدة لمختلف عوامل الإنتاج، خاصة من خلال الرفع من قدرة الفرد على زيادة الإنتاج وتحقيق معدلات محترمة في النمو الاقتصادي باعتبار الأفراد أهم العناصر الإنتاجية والتي لن تؤدي دورها بدون تعليم، وهو ما يجعل من ارتفاع مستوى تعلم المجتمع رأسمال ثابت ومتحقق في شخصية الأفراد، مشكلة بذلك ثروة للوطن، ومن باب تأكيد تأثير التعليم على الإنتاجية يمكننا فقط المقارنة بين أجور الأشخاص المتعلمين وغير المتعلمين عبر الزمن، و يصطلح على هذا المقياس بالعائد الاجتماعي للاستثمار في التعليم، كما يؤثر التعليم بشكل غير مباشر على الإنتاجية من خلال التأثير على الصحة، فقد أثبتت الدارسات أن الأمية والجهل يؤثران  بشكل فعال على مستويات الصحة الفرديةً والعامة، وهو ما اتضح بالملموس خلال ازمة كورونا، وبشكل عام يساهم التعليم في تحسين الموارد البشرية وتطويرها من خلال رفع الكفاءة والمقدرة الذهنية وسعة الاستيعاب ورفع إنتاجية القطاعات المختلفة للإقتصاد.

إن توفر العناصر البشرية المؤهلة يساهم بشكل كبير في استيعاب التقنيات الأجنبية، خاصة الحديثة بل يساهم في عمليات انتاجها وابتكارها، فالدول التي تمتلك رأسمال بشري مناسب تتمكن من تحقيق النمو الاقتصادي بشكل أسرع، نظرا لأن الرأسمال البشري المؤهل يشكل عنصر استراتيجي في الانتقال الى رتبة أعلى على سلم التقنية والابتكار، هذه الحقيقة يمكن أن تعكسها أعداد المشتغلين في البحث العلمي في الدول المتقدمة ومقارنتها بالدول النامية، إن تأهيل القطاعات الاقتصادية ببلادنا قائمة بالأساس على مدى تأهيلنا للرأسمال البشري، وهو ما يفرض اليوم أكثر من أي وقت مضى ضرورة تبني قطاع التعليم كرافعة استراتيجية لتأهيل القطاعات الاقتصادية الوطنية.

  • التعليم قاعدة لحسن تدبير الشأن العام ورفع مستوى النقاش السياسي

يمكننا الجزم أن طبيعة تدبير الشأن العام هي التي تحدد وضعية الجماعات الترابية ومستوى مختلف الخدمات والبنيات والتجهيزات، ومنه فالوضعية أغلب الجماعات الترابية ببلادنا ترتبط بمستوى التدبير، ومنه فالجميع يعرف أن مستوى التدبير يرتبط أشد الارتباط بكفاءة وتأهيل الفاعليين، فكيف يمكن الرفع من مستوى التنمية الترابية بجماعة ترابية معينة والفاعلين المعنيين بتدبير شأنها العام بدون مستوى دراسي، أو بمستوى دراسي ضعيف، إن مسؤولية تدبير الشأن العام ليس امتياز، بل هو أمانة وطنية ومسؤولية سياسية مصيرية تحدد الوضع الآني والمستقبلي لبلادنا، وهو ما يفرض ضرورة المساهمة في انتاج النخب والكفاءات المحلية ذات المستوى التعليمي العالي، وطبعا هو أمر لن يتأتى الا من خلال الرفع من مستوى تعليم المجتمع.

إن رفع مستوى تعليم المجتمع يساهم في رفع مستوى النقاش السياسي بشكل كبير، فالمجتمع المتعلم قادر على اختيار من يمكن أن يساهم في الرفع من مستوى التنمية بالوطن، فالواقع أتبث بالملموس أن المجتمعات التي تتسم بضعف مستوى التعليم سرعان ما يتم استمالتها اما بالدين او بالعاطفة، وهو ما يسير بهذه البلدان نحو الهاوية، فالواقع اليوم يفرض على المجتمع اختيار الأصلح وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم الا بالرفع من المستوى التعليمي للمجتمعات.

د.محمد بادلة
رئيس الأكاديمية المغربية للدراسات والأبحاث التنموية