أحيانا قد تنحني الكلمات، وقــد تعجز العبــارات، بل وقد يستسلم القلـم بكل ما له من جرأة أمــام سحـر الكلمـات وروعـة الإبــداع .. في إحدى يوميات الوضعيات المهنية بالثانوية الإعدادية الإمام مسلم بمولاي عبدالله بالجديدة .. وضعت الأستاذة "خديجة" رهن إشارة الأستاذ "سليم" عملا إبداعيا تسلمته من تلميذ يدرس بالسنة الثالتة إعدادي كان يجلس أمامها بالصف الخلفي .. وما أن اطلع على هذا العمل الإبداعي، حتى نال منه القبول والإعجاب وقرر حينها أن يخصص له مقالا على صفحته بالفيس بوك .. تشجيعا وتنويها له أولا ، ثانيا لإثـــارة إنتباه المهتمين بالحقل التربوي، أن كل قسم تتعايش فيه جملة من المواهب التي تحتاج إلى من يكتشفها ويخرجها من عوالم الصمت والإهمال .. ولأهمية ما كتبه هذا التلميذ ، فقد ارتأى "سليم" أن يخصص له حيزا ضمن هذه اليوميــــات .. هذا التلميذ المبدع إسمـــه " اليــاس القادري" .. وعمله الإبداعي كان عبارة عن مسرحية بعنوان " محاكمـة مجـرم الطبيعــة " ..وقد ورد في فصلها الأول ما يلي :
( الفصل الأول : في الطبيعــة )
" تدخل شخصيــة الهواء الى الخشبة ، وهي تسعـل "كح" .."كح" ، ويبدو وكأنه يعاني من ضيق في التنفـــس، يتعالى صوت من خلــف الستــارة .
-الماء : وامنجداه ... وامنجداه ... وامنجداه ....
-الهواء : ما بالك تستغيث وتتحســر ؟
-الماء : ألا ترى ما اصابنـي؟ قتلوني ؟ ... دمــروني ... خربني بنوالبشــر، كل نفاياتهم الصلبــة والسائلــة رموهــا في الجــداول والأنهـــار ، حتى العيــون والفرشة المائيــة في جوف الأرض لم تسلم منهــم .
-الهواء : بني الانســان .. صدق قوله عز وجل " وإذ قال ربك للملائكــة إني جاعل في الأرض خليفــة قالوا أتجعـل فيها من يفسد فيهـا " صدق الله العظيــم.. بني الانسان .. خنقونــي وأفســدوا تــوازني ، سممونـي ، فأحدثــوا ثقبـا في طبقـــة الأوزون ، رفعــوا درجــة حرارتي، فأصابونـي بالحمــى لغازاتهم السامــة، وحتى الأشجــار التي كانت تخلصني من هــذه الغــازات ،لم تعـد قادرة على مواجهتهــا .." .
-الشجـرة : تدخل إلى الحلبة وتقــول : سمعت أحــد يذكرني، أنــا ما قصــرت في واجبي ، لكــن الإنســان اقتلــع سيقـانـي واقتلــع جــدوري، وصنــع مني الأخشــاب والأوراق، لــم يكلــف نفســه بحمايتـي ، سممــوا التربــة التي أنمـوا عليهــا، والمــاء الذي يجــري في عروقــي. ...
-المــاء :ما العمل ؟ ألا يوجـد من يوقــف هذا الإنسان عند حــده ؟ أتركوني أغرقــه في فيضاناتي. ..
-الهــواء : أنا من رأيــي أن نرفــع دعــوة ضـده في محكمة الضميــر البشــري .
-الشجـــرة : سأحــاول جمع الشهـــود من حيوانــات ، وباقـي مكونــات الطبيعــة ، حتـى تكون قضيتنا قويــة ، وحججنــا دامغــة .
الفصل الثاني من هذا العمل كان تحت عنوان "في المحكمة" ، وعموما فلم يتردد الأستاذ "سليم" في نشر هذه المحاولة الإبداعية على صفحته الخاصة على "الفيسبوك" تشجيعا لهذا الفتى المبـــدع ، ولأن "سليم" يتوقــف عند كل الوقائع ويدقق في كل تفاصيلها وجزئياتهـا، فقــد تبيـن له وبالواضح، أن كل قسم يزخـر بالمواهـب، والأستاذ المبدع ذو النظرة الثاقبـة، هــو الذي يكتشــف المواهب التي تتواجد داخل قسمـه من أجل تشجيعهـا واعطائهــا فرصـة لتعبـر عن نفسهــا، فكم من تلميذ يبــدو متعثــرا، لكن هذا التعثــر قد يخفـي "موهبة" ما، يمكن أن يستثمرها الأستـــاذ في اخــراج التلميذ من عوالم التعثــر، لأن التلميــذ مهما تم الاعتــراف له بموهبته وقدراتــه الداخليــة، كلمـا أحس أنه شخص مرغوب فيـه داخل جماعة القســم، ويمكن أن يشكل ذلك دافعــا للاجتهــاد والتميـــز ، والتلميذ كلما أحب المادة وكلما أحب الأستاذ، كلما كان فاعلا وايجابيــا، والعكس صحيح، بمعنى أن التلميذ كلما أحــس أن لا أحد يصغي له ويقــدر مـا لذيه من طاقات ابداعيــة، كلمــا تحول الى تلميــذ متعثر وإلى مصدر شغب وقلق داخل جماعة الفصـل، أو إلى شخص منطوي ومنـــزوي...
إلى جانب هذه الموهبـة ، أثــار الأستاذ "سليم" خلال مجريات الوضعيات المهنية، وجــــود تلميذ لا يحمل من التلميذ ســوى الإسم ، يحمل إسم "لمستـــف"، يجلــس دوما بالمقعد الخلفي بالصف الأول المقابل للمكتـب، كان يبدو أكبر سنا من أقرانــه، يخرج كما دخل بخفي حنيــن، ولم يسبـق أن شارك أو أدلى بجملة مفيـدة، في إحــدى الحصص المسائية وبينما كان "سليمان" بصدد تقديم درس، خرج القسم عن سيطرتــه، حينهــا كان المسمى" لمستــف" في أحلى أيامـه يتكلم كما شاء وغير مكترت لا بالأستاذ المتدرب الذي يقدم الدرس ولا بأستاذه وباقي المتدربين الذين يجلسون في الخلــف، كان يبدو جليـا أن "لمستف" ربمـا قد إستهلك مخدر ما قبل أن يلج إلى القسم، يتذكــر "سليم" ما قاله حينها الأستاذ "رضوان" مخاطبا بقية أعضاء المجموعة والأستاذ"سليمان" يلقي الدرس : "لقد فقد السيطرة على القسم ، فكروا معه في حـل للخروج من هذا المأزق " ، لم يدع "سليم" ملاحظة الأستاذ المرشد تمر مرور الكرام، لأنه أثار قضية على جانب كبير من الأهمية، وهي تسائل المدرس في الصميم، كيف له أن يضبط إيقاع الفصل حتى لا يخرج التلاميذ عن سيطرته ويتحول القسم إلى ملاذ للشغب والفوضى، ثم ما هي السبل الديدكتيكية والتربوية التي يمكن أن يسخرها الأستاذ في حالة إذا ما فقد السيطرة ودخل القسم في دوامة اللانظــام، كان يدرك "سليم" حينها أن الجواب أو الإجابة تبقى مستعصية بالنسبة لأستاذ لازال في طور التدريب، كما كان يدرك أن الممارسة الفصلية هي التي تعلم الأستاذ مهارة التعامل مع كل الوضعيات التي يمكن أن يصادفها داخل فضاء القسم، وبالعودة الى التلميذ "لمستف" ، وفي إحدى الحصص ، ولما كان "سليم" يتهيأ من أجل تقديم الدرس، أثار انتباهه "المستف" وهو بصدد تنــاول شيئا ما، صرامته جعلته يتوجه نحوه ويطلب منه جمع أغراضه، وأمسكه بلطف من عنقه وصاحبه إلى أن أخرجه من القسم، عقبها مباشرة أغلق الباب بقــــــوة وشرع في تقديم درسه، ومن يومهـــا لم يعـد يرى "لمستف" داخل القسم، ولعله أســـدى خدمة لزملائه بعد أن أبعـد عنهم شبح المعني بالأمر في وقــت لاحت في الأفق معالم نهاية السنة الدراسيــة...