قبل انقضاء مئة يوم على تنصيب جو بايدن.. البراغماتية توجه العلاقات التركية الأمريكية

حتى قبل انقضاء مهلة المئة اليوم على تنصيب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، كتقليد أمريكي رمزي يقدم صورة نسبية عن الاختيارات السياسية للإدارة الجديدة، بدأ شكل العلاقة بين أنقرة وواشنطن يتكشف انطلاقا من رسائل وتصريحات مشفرة؛ توحي بأن الجانبين يدركان ضرورة تغليب المصالح ولو تعددت الملفات الخلافية.

فمنذ وصول بايدن للبيت الأبيض في 20 يناير 2021، حرصت الإدارة الأمريكية الجديدة على رسم معالم علاقات مع أنقرة تختلف عن سابقتها في عهد دونالد ترامب والتي لم تكن هي أيضا سلسة، وتم توجيه رسائل "مشفرة"، ستحدد شكل ومعالم العلاقات الثنائية للأربع سنوات القادمة على الأقل، والتي سيحكمها مدى استعداد الطرفين لتنسيق المواقف بخصوص مصالحهما الاستراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي، وأيضا بشأن حل الخلافات العالقة بينهما.

وعلى الرغم من مرور شهرين على تولي بايدن رئاسة الولايات المتحدة لم ي جر الأخير اتصالا هاتفيا مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، وهو الاتصال الذي ي فسر من منظور العلاقات السياسية، كمؤشر إيجابي لإذابة جليد خلاف قديم بين قائدي البلدين، أججه تصريح بايدن عزمه دعم المعارضة التركية للإطاحة بأردوغان من الحكم. واقتصر التواصل بين البلدين لحد الآن على لقاء بين وزيري خارجية البلدين ببروكسيل الأسبوع الماضي على هامش اجتماع للناتو، واللذين اتفقا على عقد اجتماع "شامل" تناقش خلاله كل المواضيع والملفات، لكن دون تحديد موعد اللقاء أو مكانه.

 

** العلاقات التركية-الأمريكية... بين التوتر والبراغماتية

يتناوب الديمقراطيون والجمهوريون على إدارة البيت الأبيض، وتبقى العلاقات التركية-الأمريكية مؤطرة بمسارين اثنين يحكمها خيط ناظم بين التوتر والبراغماتية؛ إذا ما تكاد التواترات تعصف بالعلاقات بين البلدين بسبب الخلافات حول أكثر من ملف، حتى تعود التهدئة انطلاقا من النفس البراغماتي الذي دائما ما يتم ترجيحه في العلاقات الدولية.

ويرى مراقبون أن مسار التوتر سيتحقق إذا ما عمل بايدن وفريقه على تنزيل تصوراتهما تجاه تركيا بخصوص العديد من القضايا، وفي مقدمتها العقوبات المرتبطة بحيازة أنقرة لمنظومة الصواريخ الدفاعية الروسية (إس 400) وملف تسليم واشنطن زعيم تنظيم "غولن" لأنقرة، ومواصلة الدعم الأمريكي لوحدات الحماية الكردية في سوريا والعراق، وتعارض المواقف بشأن النزاع على مصادر الطاقة شرق المتوسط، والتدخل الأمريكي في الشأن الداخلي التركي من خلال دعمها للمعارضة، ملاحظين أن ضعف التواصل بين أردوغان وبايدن والاكتفاء بالعمل من خلال المؤسسات سيزيد من احتمال النزوع نحو مسار التوتر.

أما المسار البراغماتي فينبني، في نظر هؤلاء، على علاقات عملية بين الطرفين في ضوء رغبة بايدن في تقوية "الناتو" وإعادة الاستقرار الإقليمي بما يخدم مصالح الولايات المتحدة؛ وأيضا لأهمية الدور التركي في أي توازن إقليمي، وفي رغبة أنقرة في تجنب أي خلاف قد يجرها لمواجهة مباشرة مع واشنطن.

ويذهب المراقبون إلى أن فترة ترقب في العلاقات بين أنقرة وواشنطن تفرضها ضرورات ملحة حاليا أمام بايدن، الذي يعطي الأولوية لترتيب البيت الداخلي على خلفية الأزمة الصحية والاقتصادية لفيروس "كورونا" قبل التوجه لتفعيل أجندته الخارجية، وأيضا تفضيل أنقرة لآلية الحوار تفاديا لاصطدام ستكون له تداعيات على تركيا المنهكة بالتأثيرات السلبية لأزمة "كوفيد" والمقبلة على استحقاقات انتخابية حاسمة.

في سياق متصل، يرى أستاذ العلاقات الدولية علي باكير أن المسؤولين الأتراك أبدوا انفتاحا على التعامل بإيجابية مع إدارة بايدن، وأعادوا التموضع في بعض الملفات الإقليمية بما يضمن تسهيل الحوار مع واشنطن خلال المرحلة القادمة، موضحا أن هذه التعديلات شملت تخفيف التوتر مع اليونان شرق البحر المتوسط، والاستعداد للانخراط في جولة محادثات جديدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وحل المشاكل العالقة مع الناتو وإبراز دورها وقدرتها على تحجيم التوسع الروسي بمنطقة الشرق الأوسط.

واعتبر المختص في الشؤون التركية، في مقال نشره على مواقع إخبارية محلية، أن هذه المعطيات المتضاربة تفترض أن إدارة بايدن الجديدة ستكون بمثابة تحدي وفرصة في نفس الوقت لتركيا؛ تحدي، لأنه سيكون على أنقرة وواشنطن أن تتفاهما في الملفات الخلافية بينهما، وفرصة لأن بعض الأولويات لدى الطرفين قد تخلق البيئة المناسبة لتجاوز الخلافات، وتسمح ببناء أجندة مشتركة تخدم المصالح المشتركة للبلدين.

 

**في علاقات واشنطن بأنقرة.. المصالح الاستراتيجية تفرض لغة الحوار

 

من المؤكد أن أنقرة أعدت نفسها لسيناريو فوز بايدن، كما تعكس ذلك عدة مواقف سادها خطاب التهدئة الذي تبنته مؤخرا سواء اتجاه الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة؛ كما أن إدارة بايدن، التي تولي أهمية لقوة وتماسك الناتو، الذي تعد تركيا ثاني أكبر عضو فيه، تدرك أن تأمين مصالحها الاستراتيجية بالمنطقة يتقاطع من دون شك مع مصالح تركيا.

وبالنظر إلى الوضع الجيو-سياسي للمنطقة، يتأكد أن الخلافات الثنائية لن تنتهي في الوقت المنظور؛ فتركيا منخرطة بقوة في أكثر من ملف إقليمي سواء في شرق المتوسط أو في جوارها المباشر سوريا والعراق أو حتى في القوقاز، ولكن يمكن تأجيل الخوض في هذه الخلافات وإخراجها كورقة ضغط عند الحاجة.

وفي هذا الصدد، يرى الباحث في الشأن التركي علي باكير أن هناك بعض المؤشرات التي توحي بأن إدارة بايدن تريد أن تحتوي روسيا وأن تصد توسعها في منطقة الشرق الاوسط بعد أن تمددت بشكل ملحوظ منذ عهد أوباما في سوريا والبحر المتوسط، وبالتالي فإن الطرف الوحيد القادر على مساعدة واشنطن على تحقيق هذا الأمر في حال كان لديها نية حقيقية، هو تركيا نظرا لتواجدها المباشر على الأرض في مواجهة روسيا أولا، ولأنها القوة الإقليمية الوحيدة ذات الوزن الثقيل الذي باستطاعته تقديم شيء للجانب الأمريكي في هذا الملف ثانيا.

يبدو أن تحديد مسار العلاقات بين البلدين في الوقت الراهن في يد واشنطن وليس أنقرة، ففي حال طلب البيت الأبيض من أنقرة مزيدا من التنسيق المعاكس لمصالح روسيا وإيران، فينبغي له التعامل مع تركيا كحليف ت ؤخذ مصالحه الداخلية والإقليمية بعين الاعتبار، لأنه في حال تصرفت الولايات المتحدة بشكل مخالف وفرضت ضغوطا وعقوبات إضافية على تركيا، فإن الأخيرة ست فعل بدائل أخرى لتأمين مصالحها، وعندها لن تقف تبعات هذا الخيار عند الحدود التركية، بل ستتعداها إلى المصالح الحيوية والاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة.