هجرة الأدمغة في المغرب: قلق متزايد بشأن مستقبل الوطن

يواجه المغرب، البلد الواقع على مفترق الطرق بين أفريقيا وأوروبا، تحديًا كبيرًا يتمثل في ظاهرة هجرة الأدمغة. وتشير هجرة الأدمغة إلى هجرة الكفاءات المتعلمة والمؤهلة من وطنها بحثًا عن فرص أفضل في الخارج. ويشكل هذا التوجه، الذي تسارعت وتيرته في السنوات الأخيرة، تهديدًا مقلقا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المغرب. وتؤثر هجرة الكفاءات الأكثر موهبة في البلاد على قطاعات حيوية مثل الصحة، والتعليم، والتكنولوجيا والابتكار. ولا يقتصر فقدان رأس المال الفكري على إضعاف الكفاءات الوطنية فحسب، بل يعيق أيضًا التقدم في المجالات الرئيسية اللازمة لدفع البلاد نحو مستقبل أكثر ازدهارًا.

 

حجم المشكلة

يعرف المغرب أعلى معدلات الهجرة في العالم النامي. ووفقًا للبنك الدولي، يعيش حوالي 2.5 مليون مغربي في الخارج، وهو ما يُشكل نسبة كبيرة من سكان البلاد. وقد لوحظ هذا التوجه بشكل خاص في العقود القليلة الماضية، حيث يسعى الأفراد المتعلمون تعليماً عالياً، وخاصةً في مجالات الطب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات، إلى فرص عمل أفضل في أوروبا وأمريكا الشمالية والشرق الأوسط. وكشفت دراسة أجرتها الأمم المتحدة عام 2020 أن المغرب يُصنف من بين أكبر 10 دول في العالم من حيث معدلات الهجرة. ورغم أن هذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها في المغرب، إلا أن حجم الهجرة، وخاصة بين المتعلمين تعليماً عالياً، قد دق ناقوس الخطر بشأن قدرة البلاد على الاحتفاظ بكفاءاتها.

وقد كشف أحد التقارير المنجز من طرف Global Economy   والمتخصّص في دراسة الآفاق الاقتصادية للبلدان، أنّ المغرب هو ثاني أكثر الدول العربية معاناةً من هجرة العقول بمؤشر يصل إلى 7.4.    وحسب أرقام أخرى، يغادر البلاد سنويا نحو 3700 كفاءة متخصصة، من بينهم نحو 700 طبيب وما بين 2000 إلى 3000 مهندس، للعمل في الخارج. أما اقتصاديا، تؤدي هجرة الكفاءات الماهرة إلى خسارة كبيرة في الاستثمار في التعليم. على سبيل المثال، إذا هاجر 700 طبيب سنويًا، فإن البلاد تخسر حوالي 63 مليون دولار من الاستثمار التعليمي سنويًا.  وفي نفس السياق ، يقدر البنك الدولي أن المغرب قد يخسر ما يصل إلى 1.5 مليار دولار سنويا من عائدات الضرائب بسبب هذه الهجرة (البنك الدولي، 2022). علاوة على ذلك، ووفقا لتقرير صادر عن الاتحاد العام لمقاولات المغرب (CGEM)، إن غياب المهندسين قد يكلف 8 مليارات دولار أمريكي من فقدان الإنتاجية بحلول عام 2025 (. ويؤدي هذا الوضع إلى الركود الاقتصادي، حيث إن نقص المتخصصين المؤهلين يعوق الابتكار والتطور التكنولوجي.

ومن أهم دوافع هذا التدفق هو البحث عن فرص اقتصادية أفضل. فعلى الرغم من التقدم المحرز في بعض القطاعات، لا يزال العديد من الشباب المغاربة يواجهون محدودية فرص العمل، وانخفاض الأجور، وضعف التقدم الوظيفي. ونتيجة لذلك، يختار الكثيرون مغادرة المغرب بحثاً عن ظروف معيشية أفضل، ورواتب أعلى، ورضا وظيفي أفضل في الخارج. وقد كشف تقرير الموجة الثامنة للهجرة الصادر عن الباروميتر العربي لسنة 2024 أن 55% من الشباب المغاربة الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا يُعربون عن رغبتهم في الهجرة.

 

التأثير على قطاع الصحة:

يُعتبر قطاع الصحة من أبرز آثار هجرة الأدمغة. فقد عانى المغرب منذ فترة طويلة من نقص في الكفاءات الطبية، وهو ما تفاقم بسبب هجرة المختصين في مجال الرعاية الصحية بحثاً عن فرص أفضل في الخارج. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، تعاني البلاد من نقص حاد في الاطر الصحية، وخاصة الأطباء والممرضون. اعتبارًا من عام 2011، لم يكن هناك سوى 8 ممرض لكل 10000 شخص في المغرب، وهو تناقض صارخ مع النسبة التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية وهي 25 ممرض لكل 10000 شخص. هذا النقص هو نتيجة مباشرة لهجرة الكفاءات الصحية إلى دول مثل فرنسا وكندا والولايات المتحدة، حيث تُعرض عليهم رواتب أكثر تنافسية وظروف عمل أفضل وأمان وظيفي أفضل. بالإضافة إلى هجرة الممرضين والأطباء، يواجه المغرب أيضًا تحديات في الاحتفاظ بالباحثين والمتخصصين في مجال الطب. غالبًا ما يجد هؤلاء المهنيون فرصًا أكثر جاذبية لتمويل الأبحاث والتطوير المهني في الخارج، مما يزيد من استنزاف قدرة البلاد على معالجة قضايا الرعاية الصحية الملحة. ونتيجة لذلك، تُترك البلاد مع فجوة في كل من كمية وجودة خدمات الرعاية الصحية، مما يؤثر بشكل غير متناسب على المناطق القروية والهشة بل وصلت الآثار السلبية إلى المدن والحواضر الكبرى. وقد كشفت التقارير وتصريحات مسؤولين حكوميين أن المملكة تخسر سنويا ما بين 500 إلى 700 طبيب، أي ما قد يمثل نحو 30 بالمئة من إجمالي الأطباء الذين يتخرجون سنويا، بسبب ظاهرة الهجرة.

 

تحديات القطاع التعليمي

يعاني قطاع التعليم في المغرب أيضًا من آثار هجرة الأدمغة. غالبًا ما يلتحق الأفراد ذوو التعليم العالي، لا سيما في مجالات كالهندسة والعلوم والتكنولوجيا، بدراسات عليا في الخارج، ويجدون صعوبة في العودة إلى المغرب نظرًا لمحدودية فرص العمل. ويُقوّض هذا النزوح الجماعي للمواهب قدرة البلاد على تنشئة قوة عاملة ماهرة قادرة على دفع عجلة الابتكار والتقدم التكنولوجي. ووفقًا لتقرير صادر عن وزارة التعليم المغربية، فإن ما يقرب من 80 ألف طالب مغربي مسجلون حاليًا في جامعات بالخارج، ويختار الكثيرون منهم عدم العودة بعد إكمال دراستهم.

لا يقتصر هذا التوجه على الطلبة فحسب؛ بل يسعى الأكاديميون وأساتذة الجامعات ذوو الخبرة بشكل متزايد إلى وظائف في مؤسسات أجنبية تُقدم لهم مرافق بحثية أفضل، وتمويلًا أكثر سخاءً، وحرية أكاديمية أكبر. ونتيجة لذلك، تُركت جامعات المغرب تكافح من أجل المنافسة على الساحة العالمية، وتعرض الإنتاج الأكاديمي للعرقلة. إن فقدان أعضاء هيئة التدريس والباحثين من الطراز الأول يعني أن المغرب يواجه صعوبات في تطوير مبادرات بحثية متقدمة والحفاظ على القدرة التنافسية في اقتصاد معرفي متزايد العولمة.

 

العواقب الاقتصادية والاجتماعية

لهجرة الكفاءات آثار اقتصادية بالغة الخطورة. حيث يستثمر المغرب بكثافة في نظامه التعليمي، بهدف تخريج كفاءات قادرة على المساهمة في النمو الاقتصادي للبلاد. ومع ذلك، عندما يهاجر هؤلاء الأفراد، تفقد البلاد عائد هذا الاستثمار. فالأطر العليا، كالأطباء والمهندسين والعلماء، أساسيون لدفع عجلة الابتكار، وتحسين الإنتاجية، والمساهمة في تطوير الصناعات الرئيسية. وبدون هؤلاء المهنيين، يُخاطر المغرب بالتخلف في قطاعات حيوية لتقدمه الاقتصادي.

علاوة على ذلك، في حين تُشكل تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج مصدر دخل مهم، إلا أنها لا تُغني عن الكفاءات المفقودة بسبب الهجرة. ففي عام 2020، تجاوزت تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج 7 مليارات دولار، مُشكّلةً جزءًا كبيرًا من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ومع ذلك، فإن هذا التدفق من الموارد المالية لا يُمكنه تعويض الإمكانات الضائعة في مجال رأس المال البشري. إن التنمية الاقتصادية التي كان من الممكن تحقيقها بفضل مساهمات هؤلاء المهنيين تُمثل تكلفة فرصة ضائعة لا يستطيع المغرب تحملها، لا سيما في ظل سعيه الحثيث لترسيخ مكانته كقائد في الأسواق الإقليمية والعالمية.

 

مواجهة تحدي هجرة الأدمغة

للتخفيف من آثار هجرة الأدمغة، يجب على المغرب اعتماد سياسات تُهيئ بيئةً مُواتيةً للاحتفاظ بالكفاءات ذات المهارات العالية. ويشمل ذلك تحسين ظروف العمل وتقديم أجور تنافسية، لا سيما في قطاعات مثل الصحة والتعليم والتكنولوجيا. ويمكن للمغرب أيضًا أن يتطلع إلى دول أخرى نجحت في الحد من هجرة الأدمغة، مثل الهند والفلبين، والتي وضعت برامج لتشجيع عودة المهاجرين من خلال تقديم حوافز مالية وفرص مهنية.

بالإضافة إلى تحسين الظروف الاقتصادية، ينبغي للمغرب الاستثمار في البحث والتطوير لتعزيز الابتكار وخلق فرص لكفاءاته العالية التكوين للمساهمة في نمو البلاد. ومن خلال إقامة شراكات قوية بين الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية، يمكن للمغرب إنشاء منظومة تدعم ريادة الأعمال والابتكار. علاوة على ذلك، فإن تعزيز ثقافة التميز في التعليم والبحث سيساعد في جذب المهاجرين والمهنيين الأجانب إلى المغرب. ومن الحلول المحتملة الأخرى تعزيز التعاون الدولي في مجال البحث والتطوير، حيث يمكن للمغرب إقامة شراكات مع الجامعات ومراكز الأبحاث والمنظمات الدولية لخلق فرص للمهنيين المغاربة للمشاركة في أبحاث متطورة مع الحفاظ على ارتباطهم بوطنهم. هذا النهج قادر على إرساء نموذج "انتقال الأدمغة"، حيث يتعاون الأفراد الموهوبون دوليًا دون مغادرة المغرب نهائيًا.

 

الخلاصة

تُعدّ هجرة الأدمغة إشكالية مقلقة جدا ومتنامية في المغرب، تُهدد النمو الاقتصادي والابتكار والتقدم الاجتماعي للبلاد. وبينما قد تبدو هجرة الكفاءات استجابة طبيعية للفرص العالمية، إلا أن عواقبها وخيمة على المغرب. ويتطلب التصدي للتحديات التي تُشكلها هجرة الأدمغة نهجًا متعدد الجوانب يشمل تحسين الفرص الاقتصادية، وخلق مسارات مهنية جذابة للأفراد المتعلمين تعليمًا عاليًا، وتعزيز ثقافة الابتكار وريادة الأعمال. باتخاذ إجراءات حاسمة، يمكن للمغرب الحد من هجرة المواهب والاحتفاظ بأذكى عقوله للمساهمة في نجاح البلاد مستقبلًا.

 

الهزيتي محمد انوار . خبير في التنمية الترابية و إصلاح الإدارة. عضو المعهد الدولي للعلوم الإدارية