عبد الفتاح نعوم
في منتصف يناير من العام 1975 سيفيق لبنان على وقع “مجزرة الكرنتينا”، حيث سيقضي في هذا الحي البيروتي مئات الفلسطينيين نحبهم على يد مجموعات الكتائب وحراس الأرز، وبعدها بيومين سيرد فلسطينيو منظمة التحرير ولبنانيو الحركة الوطنية على المجزرة بمجزرة الدامور، لتبدأ سلسلة ردود متبادلة كانت في المحصلة هي فتيل الحرب الأهلية اللبنانية.
وبعد أربع عقود ونيف على تلك الحرب الدامية التي بدأت رحاها تدور من قلب حي “الكرنتينا”، ها هو يعود اسم الكرنتينا إلى التداول، ذلك أن تفشي فيروس كورونا المستجد قد أعاد إلى الواجهة الحديث عن “الحجر الصحي” و”المحاجر الصحية”، وهي الدلالة الحرفية للتسمية المنقولة عن العبارة الفرنسية “La Quarantaine”، والتي تعني “المحجر الصحي”.
والحي القابع بجوار ميناء بيروت البحري، أنشأه سنة 1831 إبراهيم باشا ابن محمد عالي الوالي العثماني على مصر وقتذاك، وجعله “محجرا صحيا بحريا” يدار من طرف لجنة تتكون من قناصل الدول الأوروبية، تبعا لقرار محمد علي القاضي بإنشاء إدارة الصحة العمومية بمصر في السنة نفسها.
تأسيس هذا المحجر الصحي كان لمواجهة الأوبئة وعزلها، وذلك حتى قبل أن تتفق الدول الأوروبية على سياسة موحدة لواجهتها، حيث أن هذه الدول ومنذ الوباء الأسود في منتصف القرن الرابع عشر كانت قد بدأت تدرج على إتيان تدابير عزل مختلفة، إلى أن جاء العام 1851 ليتم عقد مؤتمر دولي صحي في باريس.
وبقدر ما كانت تلك المؤسسات انطلاقة لأول سياسة عمومية ذات صلة بقطاع الصحة في عالمنا العربي، فإنها كانت شكلا من أشكال النفوذ الأوروبي والتدخل الاستعماري في الثغور الاستراتيجية والموانئ البحرية المهمة، حيث أن تلك الدول كانت قد دفعت قناصلها إلى تأسيس مجالس صحية دولية من قبيل المجلس الصحي الدولي بطنجة سنة 1792، والمجلس الأعلى للصحة بالقسطنطينية (إسطنبول الحالية) سنة 1838.
لقد وحدت أوروبا سياساتها الوبائية في شبكة المؤسسات تلك، وانتشرت عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر الأحياء والأبراج التي تم تخصيصها لتكون “محاجرا صحية دولية”، فكانت الكرنتينا في بيروت، ومدينة العريش المصرية، و طنجة المغربية، والإسكندرية، وبغداد، والخليل، وسواحل جدة. أحياء وأبراج لطالما تم الحجر إجباريا على المسافرين فيها لمدد طويلة، من اجل محاصر الأوبئة وعزلها ومنها من التفشي.
ومع مرور السنوات وتقد الطب واللقاحات أصبحت أوبئة مثل الجدري والطاعون والتيفويد أمراضا من الماضي، وهكذا تحولت أحياء وأبراج “الكرنتينا” ملاذات للمهمشين واللاجئين، فحي الكرنتينا البيروتي المكتظ بالسكان والمليء بالمباني العشوائية، وضجيج المصانع ومكبات النفايات، شرع يستقبل اللاجئين الفلسطينيين منذ النكبة، قبل أن يأوي فقراء اللبنانيين، وتكتمل العدة باستقبال اللاجئين السوريين في السنوات الأخيرة.
قدر الكرنتينا ربما هو ممارسة الحجر بطريقة ما على الإنسان، الواقع ذاته يمتد إلى أحياء الكرنتينا في كل المدن العربية المذكورة، مثلا حي الكرنتينا المجاور لميناء مدينة جدة يمتلئ عن أخره بالفقراء المكدسين فوق بعضهم البعض، ناهيك عن ما يلتصق به من أشكال الدعارة والتجارات غير المشروعة والسرقة، وهو الواقع نفسه في كرنتينا الإسكندرية الذي تمت إزالته في التسعينيات، وكتب عنه الأديب “نائل الطوخي” رواية بعنوان “نساء الكرنتينا”.
“المحاجر الصحية” انتشرت أيضا في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وغيرها من الدول الأوروبية التي خصصت أحياء شبيهة في تلك الفترة للحجر على المصابين، لكن لا يُتصور أنها بعد زوال مهمتها تلك قد تحولت إلى ما يشابه واقعنا، فالسياسة الصحية لعصر “الحجر” تحولت إلى “حجر” عل فئات اجتماعية بكاملها وحرمانها من حقوقها الأساسية، إلى أن جاء كورونا ونبَّه الإنسانية جمعاء إلى ألم العزل والحجر والحصار.