كل التوقعات من تراجعات الفعل النقابي في السنوات الاخيرة عن الدفاع على الطبقة الشغيلة ، لن يقابله سوى إستمرار الاحتقان الاجتماعي بالمغرب، فالجميع أصبح يشكك في الفعل النقابي ودوره التاريخي في الدفاع عن الطبقة العاملة، وطرح السؤال هل تم تهجين النقابات ؟ لانه بالمقابل تجد الطبقة الشغيلة أن دور النقابات تراجع بشكل مخيف واصبح ضعيف في الدفاع على الطبقة الشغيلة و منع الاحتقان، بسبب عجزها في ايجاد حلول للملفات الاجتماعية العالقة، ولا سيما في ظل التداعيات التي خلفتها جائحة كورنا.
ومن المعلوم بحسب المتتبعين للفعل النقابي المغربي، عن تسجيل تراجع في دور النقابات خلال العقدين المنصرمين، وعجزها عن مجاراة المتغيرات العميقة التي يرتبط جزء منها بالعولمة، وصعود الليبرالية المتوحشة، وتحكم المؤسسات المالية الدولية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدول النامية، بينما يرتبط الجزء الآخر باختلال ميزان القوى بين السلطة والمؤسسات الوسيطة، وتراجع قدرة الأحزاب الكبرى على توظيف أذرعها النقابية لتحسين شروط التفاوض مع السلطة، بعدما اندمجت في بنيات هذه الأخيرة، وخصخصة القطاعات الاجتماعية الحساسة، وتفقير فئات واسعة من الطبقة الوسطى الحضرية.
وقد بلغ هذا التراجع ذروته خلال العقد الأخير مع انكفاء النقابات، وانصرافها عن الاشتباك بالأسئلة الكبرى التي استجدت مع النسخة المغربية من الربيع العربي التي قادتها حركة 20 فبراير، التي نجحت في إعادة تعريف المسألة الاجتماعية بربطها بإعادة توزيع الثروة، وفك الارتباط بين السلطة والثروة، ومراجعة سياسات التنمية المعتمدة، وهو ما اعتُبر رفضا لسردية الحوار الاجتماعي التي رهنت هذه المسألة بحسابات الفاعلين السياسيين (السلطة وأحزاب الحركة الوطنية).
ومع تشريد الآلاف من الشغيلة بسبب تداعيات أزمة كورونا، ازدادت الفجوة اتساعا بين النقابات والواقع، في ظل عجزها عن إنتاج تسويات تُخفف من الاحتقان الاجتماعي الذي بات يظهر هنا وهناك، ساهمت فيه بشكل كبير الحرب الروسية الأوكرانية، وتراجع القدرة الشرائية وغلاء اسعار الطاقة والمواد الغذائية المستوردة.
وبما أن السياسة، مثل الطبيعة، لا تقبل الفراغ، فقد أفضى انحسار فاعلية النقابات إلى ظهور فاعلين جدد، أمام الإجهاز الذي بدأت تتعرض له المكتسبات الاجتماعية التي حازتها الطبقة الوسطى نتيجة السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة.
وشكلت التنسيقيات أبرز فاعل في هذا الصدد، إذ نجحت، في سنوات قليلة، في التحول إلى رقم أساسي في حركة الاحتجاج الجديد، ولا سيما بعدما أخفقت النقابات في التصدّي لحزمة الإصلاحات الهيكلية التي قادتها السلطة في السنوات الأخيرة، والمتمثلة أساسا في إصلاح أنظمة التقاعد وإعادة هيكلة الوظيفة العمومية. وإذا كانت قواعد اللعبة تأبى استيعاب هذه التنسيقيات في الحقل المؤسسي الرسمي، بسبب خطابها الاجتماعي المتحرّر من الحسابات الحزبية والنقابية، فإن استمرارها في بناء أشكال جديدة من التعبئة الاجتماعية ينبئ بتحولاتٍ داخل الحقل الاجتماعي يصعب التكهّن بمآلها، خصوصا بعدما أصبح العزوف السياسي يتوازى مع عزوف نقابي متنام، يتمثل في امتناع شرائح واسعة من الموظفين والأجراء عن الانضمام للنقابات، بعدما أضحت تتبنى خطابا اجتماعيا ليبراليا، يختبئ خلف شعارات ملتبسة، مثل ”الشراكة الاجتماعية” و”الحوار الاجتماعي”.
في السياق ذاته، لم يكن إخفاق النقابات في تجديد آليات اشتغالها بعيدا عن معضلة الديمقراطية الداخلية، فقد كان لتمسك القيادات النقابية التقليدية بمواقعها دور في تشنج بمختلف هياكلها، ما انعكس، بالضرورة، على أدائها في مواجهة السلطة وأرباب العمل والقوى الاجتماعية المحافظة. كما كان لارتباطها بالأحزاب السياسية، على اختلاف أطيافها، دور، أيضا، في ما آلت إليه أوضاعها نتيجة ارتهانها لحسابات هذه الأحزاب التي تتغير من ظرفية إلى أخرى. وقد كان دالا، على سبيل المثال، كيف توازى الصعود السياسي لحزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي قاد الحكومة قابله صعود ذراعه النقابي (الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب)، في إعادة إنتاجٍ لأحد أكبر مآزق العمل النقابي في المغرب، نفس الوضع يتكرر الان ولو بطريقة غير مشابهة مع حكومة أخنوش وصعود نقابات شبه متعايشة، بعضهم تم دعمه من طرف الباطرونا ليتشبت من جديد بمقعده النقابي لعدة ولايات .
إخفاق النقابات المغربية في التفاعل الإيجابي مع المتغيرات الحاصلة حوّلها إلى قوة اجتماعية محافظة، تكاد رؤيتها للمسألة الاجتماعية تتقاطع مع تلك التي تتبناها السلطة والنخب وأرباب العمل. ومن هنا، هذا النجاح اللافت الذي ما فتئت تحققه السلطة في تمرير مراجعات جذرية لخيوط المعادلة المتحكمة في هذه المسألة، سواء في القطاع العام من خلال إعادة النظر في المرتكزات الأساسية التي نهض عليها منذ الاستقلال، أو في القطاع الخاص من خلال التشديد على دور ”السلم الاجتماعي” بين أرباب العمل والعمال في تعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني ومواجهة تحديات العولمة.
ومن المؤكد أن كل التراجعات للفعل النقابي بالمغرب واستمراره مستقبلا، سيعيق تطور النقابات وممكن أن تظهر. تشكيلات جديدة للدفاع والاحتجاج لن تكون السلطة قادرة على مجاراتها في حركة الاحتجاج، لان كل التنظيمات القانونية والأساسية الكلاسيكية تم تهجينها داخليا ولم تعد قادرة أن تلعب دورها الطبيعي في تقليص فجوة الاحتجاجات بين الطبقة الشغيلة والباطرونا.