ما إن كادت الأزمة تنتهي بين الرباط وباريس منتصف دجنبر 2022 المنصرم، حيث أعربت الدولتان اللتان تجمعهما علاقات ثنائية قديمة، عن رغبتهما في فتح صفحة جديدة، بدءًا بإنهاء أزمة التأشيرات والترتيب لزيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حتى عادت العلاقات إلى فُتورها، بعد أن أصدر الاتحاد الأوروبي موقفه الأخير حول حقوق الإنسان في المغرب.
وسائل إعلامية محلية قالت إن برلمانيين فرنسيين وراء الموقف الأوروبي الجديد تجاه المغرب، وهو ما تنفيه باريس التي تؤكد حرصها على بناء علاقات متينة مع المغرب، ونفت فرنسا وجود أي شكل من أشكال الأزمة الدبلوماسية مع المغرب، معتبرة أن “العلاقة الثنائية بينها وبين المغرب ليست استثنائية فحسب، بل إنها تعتزم تحسينها في السنوات المقبلة”.
إلى ذلك، أوردت تقارير إعلامية أن الرباط ألغت زيارة نائب مدير شمال إفريقيا والشرق الأوسط في الدائرة العامة للتسليح في وزارة الدفاع الفرنسية، أوليفييه لوكوانت، الذي كان من المقرر أن يزور المغرب بين 23 و24 كانون الثاني/ يناير المنصرم. كما ألغت انعقاد اللجنة الاستشارية المشتركة حول التعاون القضائي، التي كانت مقررة يومي 30 و31 من الشهر نفسه.
ارتباك فرنسي
إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية في كلية الحقوق في جامعة القاضي عياض في مراكش، أشار إلى أنّ فتور العلاقات بين المغرب المغربية وفرنسا حاصل بداية من الجانب المغربي، ومرتبط بسعي المغرب من أجل سياسة خارجية سيادية بأبعاد واضحة، تروم إرساء قدر من التوازن على مستوى الشراكات مع مختلف الفاعلين، بما فيها القوى الدولية الكبرى وخصوصاً مع الشركاء الأساسيين داخل الاتحاد الأوروبي كفرنسا وإسبانيا وألمانيا وغيرها، فضلاً عن كون السياسة الخارجية للمغرب باتت تُحدد من خلال موقع الدول من قضية الصحراء كمعيار لتقييم العلاقة وبناء الشراكات.
“هذه المعطيات لا يمكن أن نفهمها إلا في سياق مجموعة من التحولات التي شهدها المغرب خصوصاً خلال السنوات الأخيرة في سياق تنويعه لشركائه وإرسائه لعلاقات متوازنة سواء في إطار جنوب ـ شمال أو جنوب ـ جنوب. كما هو الشأن فيما يخص تمدده داخل الفضاء الإفريقي”، يقول الدكتور لكريني متحدثاً لـ “القدس العربي”.
وأبرز مدير “مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات” أن قراءة هذا الفتور تتم انطلاقاً من الارتباكات الواضحة التي طبعت السياسات الخارجية الفرنسية في السنوات الأخيرة والتي دفعت على إثرها باريس ثمناً كبيراً من حضورها الإقليمي والدولي، سواء فيما يتعلق بتواجدها داخل القارة الإفريقية، حيث أصبح هذا التواجد يلقى قدراً كبيراً من الرفض من قبل مالي وغيرها، خاصة وأن هناك نخباً إفريقية وَعَت بأن الدور الفرنسي في المنطقة ما زالت تتحكم فيه هواجس وأطماع لم تتخلص منها فرنسا ورؤية نمطية للقارة الإفريقية كخلفية استراتيجية تسعى من خلالها لتحقيق مصالحها.
وأوضح أستاذ العلاقات الدولية في جامعة “القاضي عياض” أن فرنسا لم تستطع إرساء شراكة حقيقية، كما لم تتمكن من المساهمة في تدبير النزاعات وإرساء قدر من الأمن داخل بعض مناطق التوتر كما هو الشأن بالنسبة للسّاحل والصحراء، ما جعل تنامي الاستياء داخل عدد من البلدان الإفريقية التي أصبحت تطالب برحيل القوات الفرنسية من بلدانها أو الدعوة للتخلص من التبعية لفرنسا.
ويرى الأكاديمي المغربي أن المغرب بعث مجموعة من الرسائل في سياق إرساء علاقات متوازنة، مبنية على الربح المتبادل؛ معرباً عن اعتقاده بأن “الكرة باتت في ملعب فرنسا الذي ما زال يناور ويستغل بشكل أو بآخر الخلافات المغربية بشكل يبرز الرغبة في تحقيق المصالح بكل السبل، وهذا ما يرفضه المغرب الذي يسعى إلى إرساء علاقات متوازنة مبنية على الوضوح وعلاقات شراكة، تستحضر كل مصالح المغرب وتحترم سيادتها والتعامل بالمثل، على اعتبار أنها تتعامل مع فرنسا بطريقة تعكس رغبتها في تعزيز العلاقات”.
وقال حسن بلوان، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس في الرباط، إن استمرار الفتور الحاصل في العلاقات المغربية الفرنسية سببه سياسة ماكرون الخارجية المتعنتة تجاه مجموعة من القضايا العالقة، أهمها الموقف من الصحراء المغربية وأزمة التأشيرات وتنويع المغرب لشراكاته الدولية وتمدده الاقتصادي والدبلوماسي في القارة الإفريقية، كل ذلك وأكثر زاد من تعقيد الأزمة التي ظلت توصف بـ “الصامتة”.
مرحلة غير مسبوقة
ويرى الدكتور بلوان ضمن تصريح لـ “القدس العربي”، أن العلاقات المغربية الفرنسية وصلت مرحلة غير مسبوقة بعد ضلوع مجموعة من النواب الفرنسيين في قرار برلمان الاتحاد الأوروبي ضد المغرب، مما يهدد تاريخاً طويلاً من العلاقات التقليدية والاستراتيجية بين البلدين.
ومما زاد تعميق الأزمة في العلاقات المغربية الفرنسية، وفق المحلل السياسي المغربي نفسه، التقارب الفرنسي الجزائري على حساب المغرب، ما يعطل جميع جهود التسوية وتطبيع العلاقات بين المغرب وفرنسا، رغم زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية للمغرب وتبشيرها بعودة الدِّفء للعلاقات بين البلدين.
ومن وجهة نظر أستاذ العلاقات الدولية، يمكن النظر إلى خلفيات وأبعاد وانعكاسات أزمة العلاقات المغربية الفرنسية وفق جملة من المحددات، فمَهما بلغت الأزمة من التصعيد فإن العلاقات التاريخية بين المغرب وفرنسا لا يمكن أن تصل إلى الانفصام والقطيعة، وقد اكتسب البلدان آليات براغماتية لتجاوز مثل هذه الأزمات.
وأوضح المتحدث أن التقارب الفرنسي ـ الجزائري يبقى “تحالفاً ظرفياً وهشّاً فرضته أزمة الطاقة العالمية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحاصر المغرب في قضية الصحراء، كما يشتهي ذلك قصر المرادية”، وفق تعبيره. وخَلص إلى أن الخروج من هذه الأزمة الصامتة يتطلب من فرنسا التخلص من عقدة “الحديقة الخلفية”، وأن تتفهم حق المغرب في تنويع شركائه الدوليين في الشرق دون التفريط في حلفائه التقليديين في الغرب.
ولفت الخبير المغربي إلى أن استمرار العلاقات المتأزمة بين المغرب وفرنسا يُنذر بتقلبات واضطرابات جديدة في القارة الإفريقية، على اعتبار أن التحالف بين البلدين هو صمام أمان التوازن الإقليمي في المغرب الكبير والساحل والصحراء وباقي مناطق القارة السمراء.