قبة برلمانية تتسع للفراغ ومقاعد تنتظر من يجلس عليها

يٌشكل البرلمان العمود الفقري للنظام الدستوري، باعتباره الفضاء السياسي الذي يجسد الإرادة الشعبية المعبر عنها بواسطة صناديق الاقتراع، ويمارس داخله الصلاحيات الجوهرية المتمثلة في التشريع، ومراقبة العمل الحكومي، وتقييم السياسات العمومية، بالإضافة إلى الإسهام والمشاركة في الوظيفة الدبلوماسية، ذلك أن قوة وفعالية هذه الأدوار تبقى مشروطة بالحضور القوي والفعلي لأعضاء البرلمان داخل هياكل البرلمان.

وفي هذا التوجه، عرف البرلمان المغربي تقدما نسبيا بموجب دستور 2011 الذي وسع من الصلاحيات التشريعية وخفف من القيود الدستورية المتعلقة بالصلاحيات الرقابية للبرلمان، فضلا عن الوظيفة الدبلوماسية، كما أنه استحدث صلاحية جديدة تتمثل في تقييم السياسات العمومية، لكن هذا التطور -(النسبي) -الدستوري لمؤسسة البرلمان لا يظهر بشكل ملموس على مستوى الممارسة العملية، وهناك جملة من العوامل المباشرة وغير المباشرة التي تحد من الأدوار الدستورية للبرلمان المغربي في سياق مجتمعي مطبوع بتراجع الثقة في المؤسسات التمثيلية وبنظرة مجتمعية قاتمة تجاه البرلمان، وما يرافق ذلك من تزايد الفجوة بين المجتمع وهذه المؤسسة.

لعل من بين العوامل الموروثة التي تغدي تمثلات المجتمع وتصوراته السلبية تجاه البرلمان وتشكك في فعالية شرعيته الشعبية من زاوية المنجز المحقق، هي ظاهرة الغياب البرلماني كمشكلة محرجة ومقلقة داخل التجربة البرلمانية المغربية، ساهمت بشكل كبير في انحسار ديناميته في الدفاع عن القضايا المجتمعية.

وسيكون مفيدا في هذا الإطار، مساءلة نجاعة وفعالية الآليات التي تضبط الغياب البرلماني، وتحليل العوامل المتدخلة في هذه الظاهرة، والتوقف عند مقاربة النظام الداخلي لهذه الظاهرة، والكشف عن فلسفة القضاء الدستوري وتوجهه، دون اغفال دور الأحزاب السياسية كهيئات مسؤولة سياسيا عن تصرفات وسلوكات أعضائها داخل البرلماني، كما سيتم تحليل تأثير الجمع بين المهام على الحضور البرلماني، وانطلاقا من ذلك، سيقدم هذا المقال بعض الاقتراحات التي يمكن أن تسهم في التخفيف من هذه الظاهرة، وتنقلها من الطابع البنيوي إلى الطابع الظرفي والمؤقت.

أولا: تعدد العوامل المغدية لظاهرة الغياب البرلماني

ظاهرة الغياب مرتبطة بتمثلات العضو البرلماني نفسه للسياسة، وهي ثقافة مبنية على مسألة الحفاظ على الامتداد الانتخابي، إذ يرتبط هذا الأخير بخدمات القرب وله علاقة بتوسيع شبكة العلاقات سواء كانت عائلية أو قبلية أو حتى اقتصادية، لذلك، ففي كثير من الدوائر المحلية التشريعية لا يكون للحضور أو العمل البرلماني أي تأثير في الاستحقاقات الانتخابية، حيث لا توجد دراسات تضفي الشرعية العلمية على فكرة قد تبدو متسرعة وتقترب إلى حكم القيمة مفادها أن (أكثر أعضاء البرلمان غيابا هم الفئات الأكثر الأكثر نجاحا في استعادة المقعد البرلماني)، لطالما تحكمت عوامل أخرى في كسب المقعد الانتخابي، ومنها: العامل الشخصي – العامل الأسري – العامل القبلي – شبكة العلاقات والعلاقة مع “الإدارة” ، كما يساهم العامل المالي، خاصة في الدوائر ذات البعد القروي في كسب المقعد الانتخابي من زاوية الوظيفة الاجتماعية للعضو البرلماني في السياق المغربي، إذ يقدم في بعض الأحيان خدمات اجتماعية تتعلق بالمساعدات والإعانات، وهي وظائف سوسيولوجية تتجاوز وظيفة التمثيل البرلمان كما هو مرسوم في الديمقراطيات العريقة.

وهكذا، فإن فئة عريضة من أعضاء البرلمان لا تعطي أهمية للعمل البرلماني، لأن هذا الأخير ليس له تأثير كبير في الاستحقاقات الانتخابية، اللهم إذا حرص بعض أعضاء البرلمان على توجيه بعض الأسئلة الكتابية أو الشفهية المرتبطة بالدائرة وانتخابية مع ذكر اسم المدينة أو الجماعة أو الدائرة المعنية (خاصة في الأسئلة الكتابية والتعقيبات بالنسبة للأسئلة الشفهية)، غير أن العضو البرلماني نفسه لا يكون مقتنعا بدور العمل البرلماني، مما يقلل من حماسهم للحضور والمشاركة الفعلية.

ثانيا: النظام الداخلي في حاجة ماسة لردع قوي يطوق ظاهرة الغياب البرلماني

بالعودة إلى الفصل 69 من دستور 2011 الذي ورد فيه ما يلي: “… يحدد النظام الداخلي بصفة خاصة: قواعد تأليف وتسيير الفرق والمجموعات البرلمانية والانتساب إليها، والحقوق الخاصة المعترف بها لفرق المعارضة؛ واجبات الأعضاء في المشاركة الفعلية في أعمال اللجان والجلسات العامة، والجزاءات المطبقة في حالة الغياب…”. ولهذا، فإن النظام الداخلي لمجلس النواب يعالج موضوع الغياب وفقا لمبدأ التدرج في الجزاءات (أنظر كتاب معجم الدستور المغربي للأستاذ محمد أتركين)، حيث عمل على تنظيم الغياب في اللجان الدائمة والجلسات العامة، إذ تحدث النظام الداخلي على وجوب الحضور في اللجان الدائمة من خلال المادة 137 وفي الجلسات العامة من خلال المادة 166 منه، ذلك أن أعضاء اللجنة الدائمة ملزمون بحضور اجتماعاتها والمشاركة الفعلية في أشغالها وكذلك وجوب الحضور في الجلسات العامة، ولا يجوز لأي عضو التغيب سواء في اجتماعات اللجان الدائمة أو الجلسات العامة إلا إذا كان العذر مقبولا ولا سيما في الحالات التالية:

حضور النائب (ة) عضو اللجنة نشاطا ملكيا بدائرته الانتخابية؛

قيام النائب (ة) عضو اللجنة عضو اللجنة بمهمة نيابية أو رسمية داخل أرض أو خارجه؛

وجود النائب (ة) عضو اللجنة في إجازة مرضية؛

وجود النائبة عضو اللجنة في رخصة ولادة؛

مشاركة النائب (ة) عضو اللجنة في دورات مجالس الجماعات الترابية أو الغرفة المهنية بالنسبة للنائبات والنواب الذين يتحملون مسؤولية بهذه المجالس أو الغرف.

وهكذا، تسجل أسماء الأعضاء الحاضرين والمعتذرين عن الحضور والمتغيبين بدون عذر والمنسحبين في محضر كل اجتماع وتبلغ لمكتب المجلس ورؤساء الفرق والمجموعات النيابية، تتلى أسماء المتغيبين والمنسحبين في بداية الاجتماع الموالي (بالنسبة للجان الدائمة)، وتسجل أسماء الذين تغيبوا دون عذر مقبول أو الذين انسحبوا في تقارير اللجان وتنشر في النشرة الداخلية للمجلس وموقعه الإلكتروني.

ويتضح أن المشرع يتشدد نسبيا في الحفاظ على الحضور في الجلسة العامة، حيث نص في المادة 395 من النظام الداخلي على ما يلي: “… إذا تغيب عضو عن الجلسة العامة بدون عذر مقبول يوجه الرئيس تنبيها كتابيا إليه. وإذا ثبت تغيبه مرة ثانية بدون عذر عن جلسة عامة في نفس الدورة، يقتطع من التعويضات الشهرية الممنوحة له مبلغ مالي بحسب عدد الأيام التي وقع خلالها التغيب بدون عذر مقبول، وتنشر هذه الإجراءات في الجريدة الرسمية للبرلمان والنشرة الداخلية للمجلس وموقعه الإلكتروني، كما تتم جميع التبليغات إلى العضو المتغيب بمقر فريقه أو مجموعته أو بالعنوان المصرح به لدى إدارة مجلس النواب”.

وهكذا، يلاحظ أن التدابير المتخذة للحفاظ على الحضور غير قادرة على كبح اتساع ظاهرة الغياب، لطالما أن الجزاءات يظل تأثيرها محدود، حيث يقترح في هذا السياق، بالإضافة إلى الاقتطاعات الشهرية، تجريد العضو في حالة تغيبه بدون مبرر أربع مرات متتالية أو خمس مرات متقطعة خلال كل دروة تشريعية، كما يتعين النص على اقتطاع مالي مرتفع فيما يتعلق بالغياب غير المبرر المرتبط باللجان الدائمة في حالة عدم تبني نظام التحفيز المالي.

وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الدستوري تردد في تشديد الجزاءات، حيث ورد في قرار المجلس الدستوري رقم 14/938 ما يلي: ” في شأن المادة 65 (الفقرة الثالثة) من النظام الداخلي لمجلس المستشارين،حيث إن ما نصت عليه الفقرة الثالثة من هذه المادة من أن المستشار الذي تغيب عن خمسة اجتماعات دون تبرير، فإنه، في حال تغيبه عن الاجتماع الموالي، بعد إنذاره من طرف رئيس المجلس، يعتبر مستقيلا من اللجنة، يعد بمثابة إعفاء للعضو البرلماني من وجوب المشاركة الفعلية في أعمال اللجان، المقرر بموجب البند الثاني من الفقرة الأخيرة من الفصل 69 من الدستور، مما يجعل هذا الجزاء مخالفا للدستور، وذلك دون الإخلال بتطبيق جزاءات أخرى…”.

وفي ذات التوجه، أكدت المحكمة الدستورية في قرارها رقم 19/93 م.د بمناسبة البث في النظام الداخلي لمجلس المستشارين لسنة 2019، حيث ورد في القرار ما يلي: “… وحيث إن تضمين جزاءات، في النظام الداخلي، تُطبق على أعضاء مجلس المستشارين في حال الإخلال بواجباتهم الدستورية أو بضوابط السلوك والأخلاقيات المتطلبة، ليس فيه ما يخالف الدستور، إلا أن مدى هذه الجزاءات لا يجب أن يكون حائلا دون مُمارسة الوظائف الدستورية المخولة لأعضاء مجلس المستشارين الذين يستمدون، إلى جانب أعضاء مجلس النواب، نيابتهم من الأمة، طبقا للفقرة الأولى من الفصل 60 من الدستور…”.

وفي هذا المنحى، يمكن التنويه بتوجه المشرع وجرأته في تطويق ظاهرة الغياب على مستوى الجماعات الترابية، حيث تصدى بشكل قوي لهذه الظاهرة، وذلك من خلال النص على ما يلي: ” كل عضو لم يلب الاستدعاء لحضور ثلاث دورات متتالية أو خمس دورات بصفة متقطعة، دون مبرر يقبله المجلس، يعتبر مقالا بحكم القانون، ويجتمع المجلس لمعاينة هذه الإقالة، يتعين على رئيس المجلس مسك سجل للحضور عند افتتاح كل دورة، والإعلان عن أسماء الأعضاء المتغيبين، يوجه رئيس المجلس نسخة من هذا السجل إلى والي الجهة داخل أجل خمسة أيام بعد انتهاء دورة المجلس، كما يخبره داخل الأجل نفسه بالإقالة المشار إليها أعلاه”. (المواد 67 و 68 و 70 من القوانين التنظيمية للجماعات الترابية)، وبذلك أسهم هذا التوجه في مكافحة ظاهرة الغياب على مستوى دورات مجالس الجماعات الترابية.

وبناء على ما سبق، واستحضارا للممارسات السلبية التي ظهرت في الولايات البرلمانية السابقة نتيجة متابعة بعض أعضاء البرلمان في حالة اعتقال لمدة غير قصيرة وما يترتب عن ذلك من تأثير على مسار العمل البرلماني، وخاصة صورة البرلمان لدي الرأي العام الوطني والدولي، لذلك تم تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب الذي أقر في المادة 28 من النظام الداخلي لمجلس النواب ما يلي: ” طبقا لأحكام الفصل 61 من الدستور والمواد 11 و 12 و 12 المكررة و 17 و 18 و 93 و 95 و 96 من القانون التنظيمي لمجلس النواب يجرد كل نائبة أو نائب من عضوية مجلس النواب في مجموعة من الحالات من بينها الغياب غير المبرر عن أشغال المجلس لمدة سنة كاملة؛ فكل عضو تغيب سنة تشريعية كاملة عن حضور أشغال مجلس النواب دون عذر مقبول، حيث يعتبر عذرا مقبولا استفادة النائب (ة) المعني من رخصة مرضية طبقا للقوانين الجاري بها العمل، يقوم مكتب المجلس بمراسلة النائب (ة) المتغيب لتوضيح أسباب غيابه كتابة طيلة هذه السنة، داخل أجل 15 يوما من تاريخ تبليغه مراسلة المكتب وفق المساطر الجاري بها العمل في هذا الشأن. لكن في حالة عدم توصل مكتب لمجلس بجواب من المعني (ة) بالأمر داخل الأجل المحدد، يعتبر ذلك تأكيدا منه بغيابه دون عذر مقبول، وبناء عليه يصدر المكتب مقررا يثبت واقعة الغياب لمدة سنة كاملة ويرفقه بطلب التجريد الذي يحيله رئيس المجلس على المحكمة الدستورية داخل أجل 15 يوما من تاريخ ثبوت واقعة الغياب.

ومن هذا المنطلق، وللبحث عن حلول فعالة لمعالجة ظاهرة الغياب البرلماني، يتعين إعادة النظر في نظام التعويض المالي، وذلك بربطه بشكل فعال ومباشر بالتحفيزات المقدمة للعضو البرلماني بشكل مباشر، على سبيل المثال، يقترح أن يحدد التعويض الأدنى للعضو في 10 ألف درهم، ويقدم الباقي يقدم كتحفيز حسب عدد الجلسات والاجتماعات، وفق شبكة دقيقة خاضعة للمراقبة، شريطة أن لا يتجاوز مبلغ التحفيزات 40 ألف درهم كحد أقصى، وبالتالي يمكن فتح نقاش جري ء لتطوير هذا المقترح وتجويده والبحث عن صيغ تنظيمية لإدماجه داخل النظام الداخلي، انطلاقا من بوابة التحفيز كآلية لتعزيز الحضور الفعلي البرلماني.

ثالثا: غياب المحاسبة والمواكبة الحزبية لأعضاء الفرق داخل العمل البرلماني

لا شك أن ظاهرة الغياب مرتبطة -كما سبقت الإشارة -بمجموعة من العوامل؛ لعل أهمها ضعف التأطير الحزبي للمنتخبين، حيث من المفروض أن تحرص الأحزاب السياسية على تحصين صورتها لدى الرأي العام، وذلك من خلال البحث عن صيغ تنظيمية لانضباط أعضاء البرلمان باحترام صورة ومصداقية الحزب الذين يمثلونه داخل مجلسي البرلمان، لطالما أن غياب العضو يشكل في عمقه غياب الحزب نفسه، وبالتالي فهناك ترادف بين الحزب والعضو البرلماني الذي يمثله.

يتعين التفكير في معالجة ظاهرة الغياب من خلال الحفاظ على الرابطة الحزبية بين العضو البرلمان والحزب الذي ينتمي إليه، إذ تنقطع هذه الرابطة في بعض الأحيان، ومن ثم، يقترح في هذا الإطار إسناد مسألة الحضور والتواصل إلى لجان أو هيئات تابعة للحزب مع مواكبة الفريق داخل والبرلمان وفق مقاربة جديدة، حيث تضطلع هذه اللجان أو الهيئات بوظيفة أخلاقيات العمل البرلماني، كما يتعين منح هذه اللجان أو الهيئات الحزبية صلاحيات تأديبية، لتتحول إلى آلية ضبطية داخلية تمارس التأطير والمواكبة والتكوين وكذا التأديب الداخلي، ويمكن أن ترفع قراراتها إلى أعلى هيئة داخلية في الحزب، سواء تعلقت بالإنذار، أو تجميد العضوية الحزبية، أو الطرد أو التوصية بعدم منح التزكية في الاستحقاقات الانتخابية القادمة.

رابعا: تعدد المهام: تبرير منطقي أم عائق مساهم في الغياب البرلماني

لعل القضية التي استأثرت أكثر باهتمام المشرع في العقد الأخير ، وتصدرت قائمة التعديلات في مختلف القوانين الانتخابية وغيرها من التشريعات سواء أكانت قوانين التنظيمية أو عادية تهم المجالس والمؤسسات والهيئات الدستورية، هي قضية توسيع حالات التنافي أو ما يعرف بالحد من حالات الجمع بين المهام والمسؤوليات، لذلك، فإن خضوع المؤسسات الدستورية، وخاصة هيئات الحكامة، للتوجه التشريعي الرامي إلى توسيع حالات التنافي يعكس حرص المشرع على “تقديس” التخصص والانضباط والتفرغ المؤسساتي والانفتاح على نخب جديدة، غير أن تعميم هذا التوجه على المؤسسات التمثيلية، قد يطرح بعض الإشكالات ويجعها قضية خلافية، بين توجه مؤيد يرفع شعار دوران النخب وتوجه ثاني يؤمن بتقوية المؤسسات التمثيلية.

بين التوجه الداعم لتوسيع حالات التنافي والتوجه المعارض لها، يتعين الحرص على تقوية الجانب التمثيلي، إذ يصعب واقعيا الفصل بين تدبير رئاسة الجماعة والعضوية في أحد مجلسي البرلمان، وأن توسيع حالات التنافي من شأنه أن يحدث شرخا في الوظيفة التكاملية، لكن في المقابل من ذلك، يبقى باب الاجتهاد مفتوحا فيما يخص تمديد وتمطيط حالات التنافي لتشمل عدم الجمع بين العضوية في مجلس الجماعة والعضوية في مجلس الإقليم أو العمالة والعضوية في مجلس الجهة، وكذا العضوية في مجالس الغرف المهنية.

وأحيانا يدافع رؤساء مجالس الجماعات على المشاكل المحلية من داخل البرلمان، خاصة بمناسبة صياغة القوانين التي تمس بشكل مباشر عمق التنمية المحلية، حيث تنقل المشاكل الترابية إلى مجلسي البرلمان، ويمكن أن تصرف انطلاقا من الأسئلة الكتابية إذا كانت تخص نطاقا ترابيا محددا أو الأسئلة الشفهية إذا كانت تعاني منها الكثير من الجماعات، كما يمكن أن تطرح خلال اللجان أو أثناء مناقشة مشروع قانون المالية السنوي أو التعديل أو بمناسبة التصويت على قانون التصفية.

بشكل عام، تعد مسألة الجمع بين المهام مسألة خلافية، تحمل في جوهرها جوانب إيجابية ومظاهر سلبية، غير أن تعدد المهام يمكن أن يؤثر بشكل سلبي على العمل البرلماني، لأن هذا الأخير يتطلب الحد الأدنى من التفرغ والاحترافية، خاصة على مستوى الجانب التشريعي وتقييم السياسات العمومية والوظيفة الديبلوماسية.

خامسا: أثر الغياب البرلماني على جودة التشريع وقوة الرقابة ودقة التقييم وفعالية الوظيفة الدبلوماسية 

يصعب الاتفاق على أن ظاهرة الغياب لا تؤثر على جودة التشريع، وقوة الرقابة البرلمانية، وتقييم السياسات العمومية، وكذلك الوظيفة الديبلوماسية، اللهم إذا كان الحضور مجرد حضور شكلي (حضور أجساد بلا هوية)، فبخصوص المؤشرات أو الحالات المتعلقة بالغياب، يمكنكم العودة إلى المحاضر لاكتشاف الكثير من مشاريع القوانين التي قدمت ونوقشت وصوت عليها داخل اللجان بحضور جد باهت، مما يؤثر بشكل سلبي على إغناء النقاش والاستفادة من مختلف التصورات والاقتراحات.

وفي هذا السياق، يمكن التنبيه لقضية خطيرة تتعلق بظاهرة الغياب؛ وهي قضية “الأعضاء المتسللين أو ما يمكن تسميته بالدارجة “بالسلاتية”، حيث يحضر العضو البرلماني، ويوقع على الحضور، وبعد ذلك ينصرف، وهذه مسألة خطيرة لها صلة بفرضية التلاعبات بالتوقيعات، وبالتالي التي يتعين النظام الداخلي أن يتصدى لها بشكل حازم، من خلال التدقيق في التوقيع وأن يكون في بداية الاجتماع وفي نهايته.

وعليه، تتجلى الغاية الأساسية للتمثيل البرلماني في الحضور الحقيقي، ونقل القضايا والمشاكل اليومية، -في إطار الصلاحيات الدستورية – إلى البرلمان، وهو نفس التوجه الذي أكدت عليه المحكمة الدستورية التي شددت على أن أعضاء البرلمان ملزمون بالمشاركة الفعلية، التي لا ينبغي أن تقتصر على الحضور الجسدي فحسب، بل ينبغي أن تشمل الإسهام الفعلي في النقاشات وتقديم الاقتراحات والتعديلات، بما يعكس درجة الالتزام والمسؤولية الفعلية والجسيمة لأعضاء البرلمان قصد إعطاء المصداقية للعمل البرلماني (قرار المحكمة الدستورية 256/ 25 م.د)، وبالتالي، فالهدف الرئيسي من الحضور هو المشاركة في العمل البرلماني.

سادسا: الغياب عن اللجان والجلسات: ظاهرة عابرة أم خلل بنيوي في العمل البرلماني المغربي

لا بد من التذكير بأن غياب أعضاء البرلمان تحول إلى ظاهرة ثابتة شملت جميع الولايات البرلمانية، وهي ظاهرة تجر في حمولتها العديد من العوامل المتداخلة والمترابطة، لعل أهمها العامل الحزبي وعلاقته بطبيعة ما يمكن تسميته “بالنخب البرلمانية” التي تفرغ مفهوم ومعنى التمثيل من قيمته الدستورية والسياسية والأخلاقية، لطالما أن عددا غير قليل من الأحزاب السياسية لا يهتم بمعايير منح التزكيات باستثناء معيار كسب رهان المقعد البرلماني، لذلك، فإن العامل الحزبي المتمثل في عدم إلزام أعضاء الفريق النيابي بالامتثال لمجموعة من الضوابط؛ من بينها الالتزام بالحضور والتواصل واحترام توجهات الحزب، له علاقة مباشرة باتساع ظاهرة غياب أعضاء البرلمان.

يتعين الإشارة إلى العامل الدستوري المتعلق بصلاحيات السلطة التشريعية في علاقتها بباقي السلطات، إذ يظهر البرلمان كمؤسسة محاطة ومكبلة بالكثير من القيود الدستورية المؤطرة، والمستمدة من فلسفة العقلنة البرلمانية، وهي حدود تعقل وتكبل جماح البرلمان، لذلك فعضو البرلمان يتأثر بمحدودية المؤسسة البرلمانية، ويشعر بأن وجوده وحضوره في اللجان أو الجلسات لا يؤثر بشكل كبير على السياسات العمومية والقطاعية، طالما أن الحكومة تمتلك أغلبية عددية وتتوفر على آليات دستورية تحول بموجبها البرلمان إلى ما يشبه “مقطورة” تابعة للحكومة، وبالتالي، فإن ضعف الصلاحيات الرقابية ومحدوديتها وغموض صلاحية التقييم وهامشية وظيفة الدبلوماسية، جميعها عوامل تسهم بشكل كبير في تغدية ظاهرة الغياب البرلماني.

 

سابعا: محدودية دور الإعلام والمجتمع المدني في متابعة أداء البرلمانيين 

في السياق المغربي، يصعب الحديث عن دور الإعلام في الرصد البرلماني، إذ أن الإعلام محكوم بالأخبار اليومية، ونشر المعلومات وفضح التجاوزات التي تحتاج إلى السرعة في التغطية والبث، ولهذا، فإن العمل البرلماني يفرض تركيزا دقيقا ومهنية عالية في مسايرة أداء البرلمانيين، نتيجة لحساسية القضايا المرتبطة بالعمل البرلماني مثل ظاهرة الغياب، وهي قضايا تنعكس على صورة الأحزاب السياسية التي ينتمي إليها أعضاء البرلمان، فضلا عن ذلك، يلاحظ أن الملفات أو التحقيقات التي تشتغل على العمل البرلماني قليلة في هذا المضمار، اللهم بعض البرامج المتخصصة، كبرنامج البرلمان والناس الذي تبثه القناة الثانية 2M، وهو برنامج أضحى يواكب بشكل دقيق مسار العمل البرلماني، ويغطي بشكل موضوعي جميع العوائق والمشاكل التي ترتبط بالبرلمان، كما يقدم الحلول والمقترحات الدستورية لتطوير وتجويد العمل البرلماني في المغرب.

وفيما يخص المجتمع المدني، فبالرغم من التحولات الدستورية التي أسهمت في الارتقاء بوظيفة المجتمع المدني، فإن هذا الأخير مزال يعاني من الكثير من الإشكالات التي تحد من وظيفيته وفي مقدمتها مسألة التمكين، بمعنى تملك المجتمع المدني بالمعرفة اللازمة للأليات الدستورية والقانونية، ولهذا يتضح بشكل جلي تواضع المبادرات المدنية المتعلقة برصد أداء البرلمانيين من خلال إعداد تقارير مراقبة الأداء البرلماني وصياغة المذكرات والتوصيات، وكذا تنظيم اللقاءات ذات الصلة بالموضوع، علاوة على ذلك، فإن هذه المبادرات، ولئن كانت حاضرة بشكل قوي في النماذج الغربية الفضلى، سواء من خلال تقارير المنظمات المدنية أو المراكز البحثية أو بعض المعاهد، فإن غيابها في الحالة المغربية (باستثناء حالات قليلة ) يرجع لضعف الدعم المالي وغياب التخصص المدني في العمل البرلماني.

ومن هذا المنطلق في ظل تراجع منسوب السياسة، وغياب نقاش سياسي عمومي، لا يمكن الحديث عن اسهام الضغط المجتمعي في تغيير السلوك البرلماني، فمعظم الاحتجاجات والتوترات الشعبية ترتبط بقضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولا ترتبط بطبيعة العمل البرلماني، لكونها غير مسنودة بمواكبة وبتأطير مدني أو نقابي أو حزبي، وبالتالي في ظل انتظار ولادة نقاش مجتمعي سياسي يتعين التركيز حاليا على المدخل القانوني والمدخل الحزبي لمعالجة ظاهرة الغياب البرلماني.

*أمين السعيد/أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس.

 

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي بلبريس بل عن رأي صاحبها.

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *