يبدو أن شركة العمران، التي يُفترض أنها الذراع العقارية للدولة، تحولت إلى أحد أكثر الأجسام العمومية إثارة للجدل، ليس فقط بسبب فشلها المتكرر في إنجاز مشاريعها وفق المعايير المتعارف عليها، بل بسبب تزايد مظاهر التسيب الإداري، وغياب الشفافية، وتفاقم معاناة المواطنين، خاصة مغاربة العالم، الذين وجدوا أنفسهم في كثير من الحالات ضحايا لنظام عقاري مأزوم، محكوم بممارسات أقرب إلى الفوضى منها إلى التخطيط المحكم.
مشروع “الغالي”.. 15 سنة من العجز
ولعل آخر فصول هذا العبث تكشفه قضية مشروع “الغالي” بمدينة مراكش، وهو المشروع الذي وُضع في خانة المشاريع الاقتصادية والاجتماعية الموجهة لذوي الدخل المحدود والمهاجرين المغاربة منذ انطلاقه سنة 2009، ليصبح بعد أكثر من 15 سنة رمزاً للفشل والتلاعب بمصير الناس، وواحداً من أكبر عناوين الإخفاق المؤسساتي لشركة العمران.
فبحسب الشكايات الموثقة، فقد أبرم عدد كبير من أفراد الجالية المغربية عقود حجز نهائية مع العمران بخصوص شقق سكنية ضمن هذا المشروع، وأدّوا كافة المستحقات المالية، بل تكبدوا مصاريف إضافية للسفر والإقامة والتنقل في سبيل متابعة تطور المشروع، دون أن يتلقوا شيئاً غير الصمت والمماطلة والإهمال. بل إن بعض الشهادات تؤكد أن العمران أقدمت على تخصيص نفس الشقة لأكثر من مستفيد، في ما يبدو أنه فعل لا يخرج عن دائرة النصب والاحتيال المنظم، تحت غطاء مؤسسة عمومية.
والأخطر أن كل المحاولات الودية أو القانونية التي باشرها المتضررون اصطدمت بجدار الصمت، في ظل غياب أي إرادة واضحة من مسؤولي العمران لمساءلة أنفسهم، أو تقديم توضيحات، أو حتى فتح قنوات حوار مع الضحايا، الذين لا يطالبون سوى بحقوقهم.
هذه الفضيحة لا تُختزل في مشروع “الغالي”، بل تمثل نموذجاً مصغراً لمجمل الاختلالات البنيوية التي تنخر مؤسسة العمران، من غياب الشفافية، إلى العجز في تسليم المشاريع في الآجال المحددة، إلى رداءة الإنجاز في العديد من الحالات، إلى غياب مراقبة داخلية ومحاسبة فعلية، وانعدام الكفاءة في إدارة ورش استراتيجي يتعلق أساساً بالإسكان والتنمية الحضرية.
مئات الملايين لـ”ترويج شكلي”
وفي خضم كل هذا، اختارت “العمران” أن تصرف ميزانية ضخمة في وقت سابق تُقدّر بـ4.7 مليون درهم لتنظيم معرض “Omrane Expo MDM” الموجه لمغاربة المهجر، وهي فعالية تثبت كل المعطيات أنها لا تحقق أي أثر يُذكر، إذ أنها تُستهلك كواجهة شكلية لتلميع صورة المؤسسة، دون أن تقدّم حلاً ملموساً أو خدمة حقيقية. فمغاربة المهجر لم يعودوا يُخدعون بالشعارات والعروض الورقية، ولا يبحثون عن صور مزينة داخل رواق المعرض، بل عن شقق قائمة، بأوراش مكتملة، وعقود محترمة، وضمانات قانونية واضحة.
ويرى عدد من مغاربة العالم أن الاعتماد على الخطاب العاطفي في مخاطبة الجالية بات من الماضي، ومغاربة العالم اليوم أكثر وعياً واستقلالية وذكاء، وهم يدركون أن عرضاً عقارياً حقيقياً يجب أن يُقاس بجودته وضماناته، لا بلغة التسويق المفرغ من المضمون، ولا بمنشورات لامعة تتستر على فساد إداري وتمويلي صارخ. لذلك، فإن استمرار تنظيم هذا المعرض في صيغته الحالية ليس سوى تبديد واضح للمال العام، يجب أن يُفتح بشأنه تحقيق مالي وإداري وقانوني.
أما مؤسسة العمران، فهي اليوم في قلب مساءلة وطنية كبرى، تفرض من وزارة إعداد التراب الوطني والإسكان تدخلا عاجلا وفعالة، ليس فقط لمتابعة الملفات المتعثرة، بل لإعادة النظر جذرياً في منظومة اشتغال الشركة، فلا يُعقل أن تستمر مؤسسة بهذا الحجم في التنصل من مسؤولياتها، بينما تُصرف الملايين على الحملات واللقاءات والتمثيليات الشكلية، في حين تُعلّق حياة مئات الأسر بين دهاليز الإدارة وتلاعبات المقاولين، وتجاهل تام لمفهوم المرفق العمومي.
ضرورة تفعيل مبدء “ربط المسؤولية بالمحاسبة”
وتعتبر عدد من المصادر من مغاربة العالم، أنه “آن الأوان أن نكفّ عن التعامل مع شركة العمران كأنها “مقدّسة” لأنها عمومية، وأن نخضعها، كما باقي المؤسسات، لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، خاصة في ظل المؤشرات الخطيرة التي تكشفها تقارير المتضررين وشكاياتهم المتراكمة، لأن من العبث أن نحتفل بالتحويلات المالية لمغاربة العالم كل صيف، في وقت لا يجد فيه هؤلاء ما يُقابل تلك الثقة من حيث الخدمات العقارية أو جودة المشاريع أو احترام العقود”.
وحسب المصادر نفسها، فإنه “ما يحصل اليوم ليس مجرد تأخر في الأوراش، بل إهانة حقيقية للمواطنين، وعبث بمستقبلهم وأموالهم، خصوصاً أن هذه الأموال، كما أكد المتضررون، هي حصيلة سنوات من الغربة، والكدّ، والعمل المضني، ولا يمكن أن تُعامل بهذا القدر من الاستهتار، إما أن تتحول شركة العمران إلى مؤسسة حقيقية تعمل وفق قواعد الحكامة والنجاعة والمحاسبة، وإما أن تُفكك، ويُعاد النظر في وظيفتها وجدواها”.