استشرافات المهدي

من عبقرية المفكر المغربي المهدي المنجرة ، تنبؤه سنة 2000 بانتفاضة اجتماعية عربية تعم في غضون سنوات لاحقة، الوطن العربي من المشرق إلى المغرب. "انتفاضة شعبية تنعش الفكر الثوري العربي وتحيي حلم الحرية الموؤد وتعيد وهج ستينات القرن الماضي"[1].هذ الاستشراف المستقبلي طبع كتابات الدكتور المهدي المنجرة وجاء في بعض حواراته وخصوصا كتابه الجريء، "زمن الذلقراطية" وكتابه المتميز" الحرب الحضارية الأولى" [2] ، كتابات تستطلع مستقبل البشرية علميا معتمدة المقارنة ومؤشر تطور المعطيات الاجتماعية والاقتصادية والبشرية وحجم الموارد والعامل الديمغرافي وأسلوب إدارة الحكامة السياسية والتدبير. نظرية الاستشراف المستقبلي عند المهدي تصب في اتجاه تنويري كوني تنطلق من فكرة التوزيع العادل للخيرات وبناء مجتمعات متساوية في الحقوق والواجبات والكفاح من أجل تحرير الإنسان من عبودية القرن الواحد والعشرين وهيمنة نظم الاقتصاد العالمي الجشعة التي سيطرت على المجتمعات بفضل منظومة إنتاج متطورة تنشر ثقافة الاستهلاك من منظور سوسيو اقتصادي طبقي.

الملاحظون والنقاد والسوسيولوجيين الغرب الذين تمعنوا هذه الاستشرافات علميا في كتب المهدي، كانت لهم أراء في الموضوع وقدموا تحذيرات قوية لبعض الدول العربية منها دول في المغرب العربي كتونس والجزائر والمغرب، وطالبوا باتخاذ بعض الاحتياطات الاحترازية للحيلولة دون استفحال الأوضاع الاجتماعية للأسوأ واتخاذ كافة الإجراءات لمعالجة الوضعية الاجتماعية والاهتمام بشرائح المجتمع الأكثر تضررا وعدم الاعتماد على المقاربة الأمنية كحل للإشكالية الاجتماعية، فإن تعزيز القدرات الأمنية لمكافحة الشغب والاحتجاجات لن يفيد الاستقرار في شيء، فما فائدة الاحتجاجات والعصيان إذا توفرت العدالة الاجتماعية وسادت المساواة المجال الاجتماعي بمختلف شرائحه وفئاته ؟ بعد حوالي سبع سنوات قدم المفكر العالمي السوسيولوجي "امانويل تود"  Emmanuel Toddنفس النصيحة بناء على تقرير ميداني توصل به عن الوضعية الاجتماعية الموجودة في شمال افريقيا وعلى وجه الخصوص في المغرب. السؤال المطروح هو هل استفاد المغرب من هذا التحذير في حينه ، علما أن المفكر العالمي الكبير الدكتور المهدي المنجرة لم تكن علاقته بالسلطة السياسية في البلاد العربية ولا في بلاده على ما يرام ؟

لقد شكل المفكر المهدي المنجرة ، حلقة فكرية مترابطة بين المجتمع الثقافي في المغرب العربي وبين العالم، فكان صلة وصل بين ما ينتج الفكر المستقبلي العالمي من معلومات ونظريات وأفكار والمجتمع الثقافي والعلمي في المغرب العربي وفي العالم العربي ككل. أكيد أن ما عاناه المفكر الكبير من مضايقات وتهميش من قبل الأجهزة الحكومية وخصوصا العلمية والثقافية والسياسية في البلاد، تسبب في خسارة كبيرة للثروة الفكرية والعلمية التي تدعوها أدبيات الدولة الآن بالثروة اللامادية. المعرفة المعاصرة في مادة الاقتصاد السياسي والتنمية المجالية والحكامة وتقاطعها مع العلوم الإنسانية تشكل الحلقة الكبيرة المفتقدة في المكون الثقافي لدى المسؤولين الحكوميين ، مما يجعل الأثر الثقافي والعلمي مهمش بطريقة أو بأخرى وعلى رأسها تدني المستوى التعليمي في جميع اسلاك التربية والتكوين ، وبالتالي يتم تهميش المصادر المنتجة لهذه الثقافة لفائدة معرفة سياسية متدنية القيمة علميا. للأسف تكون هذه المعرفة السياسية المؤطرة حزبيا والمدعومة من قبل المنظومة السياسية والسلطة؛ هي النموذج المطلوب في تشكيل نخبة التدبير والتسيير حكوميا والنتيجة في الميدان بارزة للعيان تدهور هائل في منتوج التدبير الحكومي وتدني غير مسبوق في مستوى الحكامة وهو معطى يحدد حجم الخسارة الفكرية التي أصيبت بها جهازية التدبير الحكومي عربيا ومغاربيا ؛ النشوز عن المعرفة التنويرية ذات البعد المستقبلي والتبلد بسبب الإيديولوجية والخانات والمواقع السياسية، مما انتج عجزا مفرطا على مسايرة مستوى هذه المعرفة في بلدان أخرى ديمقراطية قريبة منا (إسبانيا والبرتغال) وشلل تام في القدرة على إنتاج استراتيجية بناءة وعملية في وضع مخطط نهضوي حقيقي لتطوير المؤسسات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

استثمار النظرية الاستشرافية المجالية التي قدمها المهدي المنجرة حول مصير المجتمع العربي قبل "انتفاضة الرغيف العربي" في تونس سنة 2011، وكان المنجرة قد أوجس مخاوفه قبل ذلك بحولي عقد ونصف من الزمن أي قبل طبعه كتاب "الحرب الحضارية الأولى" سنة 1993 وكتابه "الانتفاضة في زمن الذلقراطية" بحوالي خمس سنوات ، لم يتم التعاطي معه بمفهوم عملي واضح، وكأن السلطات العربية لم تسمع ولم تطلع على شيء، الحقيقة أن السلطات السياسية في العالم العربي تعيش قطيعة أبدية مع الفكر السياسي وسوسيولوجية الثقافة عموما ، فالأغلبية الساحقة من المسؤولين الحكوميين في العالم العربي لا يقرؤون كتابا واحدا في السنة، بل اغلبهم لا يقرأ الجرائد اليومية إلا بدافع معرفة ماذا يقول الكتاب والصحفيون عنهم وعن الأحزاب التي ينتمون إليها، لذلك لم نرى أي اثر للفكر والمعرفة السوسيولوجية بكل فروعها علوم سياسية وما يستجد في العلوم اقتصادية والحكامة الجيدة وكيفية تدبير الأزمات.

[1]  انظر كتابه الذلقراطية الصادر عن مطبعة البوكيلي سنة 2001 ص .126.

[2] ارتبط الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله بجامعات يابانية كانت مسرحا لتطور فكر المستقبليات، مقدما بذلك خدمة عظيمة لهذا الفكر وللإنسانية عموما.