شكلت الذكرى الستين لإحداث البرلمان المغربي، فرصة سامية من أجل تشخيص واقع العمل البرلماني، واستشراف مستقبل هاته المؤسسة التشريعية، حيث وجه فيها الملك محمد السادس رسالة لأعضاء البرلمان، بمناسية افتتاح أشغال الندوة الوطنية المخلدة لهته الذكرى يوم 17 يناير، يشعرهم فيها بواقع العمل البرلمان، مع استشراف مستقبل هته المؤسسة التي يمثل أعضائها الأمة المغربية وباقي القوى الحية.
ومن المعروف أن أعضاء البرلمان يشكلون نخبة النخب، إلاّ أن المشهد البرلماني يعاني من بعض المظاهر التي تهدد مستقبل هته المؤسسة العتيدة، ما من شأنه تقويض العمل البرلماني دون أداء دوره، وفقدان الثقة فيه وفي باقي المؤسسات المنتخبة، وضياع فرصة التنمية بالمردودية المرجوة، على اعبتار أن الاصلاح يبقى معطوبا ما لم تجيش لأجله باقي المؤسسات، في إطار الشمولية والتكامل في الأدوار للرفع من وتيرة التنمية.
وفي هذا الإطار، ذكر جلالة الملك بالمبادئ والمكاسب الديمقراطية والمؤسساتية التي راكمها المغرب، وما حققه في مجال العمل البرلماني ومكانة السلطة التشريعية في مسار الإصلاحات المؤسساتي والسياسي والتنموي؛ كما دعا إلى استشراف مستقبل النموذج السياسي المغربي، في أفق ترسيخ أسس الديمقراطية التمثيلية، وتكريس مبدأ فصل السلط، لتعزيز تقاليد المؤسسة التشريعية العريقة.
وقد شددت الرسالة على أن النموذج المغربي ظل متفردا، وينتصر للتعددية والتنوع، مع مراعاة الخصوصية دون تفريط في المعايير الكونية للديمقراطية التمثيلية، فضلا عن الاقتراع الحر والنزيه، والتعددية الحزبية، والتناوب على تسيير الشأن العام؛ واقحام السلطة التشريعية في صلب الإصلاحات الهيكلية، عبر توسيع اختصاصاتها وتعزيز استقلاليتها، وجعلها مصدرا للتشريع، ومنحها اختصاص لتقييم السياسات العمومية، ومراقبة العمل الحكومي.
وذكّر بدسترة الديمقراطية التشاركية والمواطنة، وأدوار المجتمع المدني، والحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع، وعرائض للسلطات العمومية، ما من شأنه إغناء العمل البرلماني، فضلا عن مشاركة القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحية في الاصلاح، وفق المقاربة التشاركية، كمنهجية أساسية لبلورة الإصلاحات الكبرى.
وأكد جلالة الملك، أن المكاسب يجب أن تستثمر لترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتحقيق التقدم والرخاء لأفراد الشعب المغربي، بالنظر إلى كون أن الشروط والظروف متوفرة؛ إذا أن النموذج البرلماني المغربي القائم على التدرج ومراكمة الإصلاحات الدستورية المتواصلة، حقق نضجاً كبيراً على مستوى الاختصاصات وممارستها، وكذا من خلال الانفتاح على المجتمع المدني، وفي تنظيم وتدبير العمل البرلماني، والدبلوماسية البرلمانية.
رغم المسار السياسي والديمقراطي والمؤسساتي، والإصلاحات التي راكمها المغرب في هذا الصدد، غير أن مردودية الأداء تحتاج إلى مزيد من الجهود لمواكبة الأوراش الإصلاحية الكبرى، ولمواجهة الرهانات المستقبلية، على اعتبار أن الإصلاح ليس وصفة سحرية قابلة للاستيراد، وإنما مسار تدريجي متأصل وفقا لما جاء في الرسالة الملكية؛ الأمر الذي يستدعي تشخيصا واقعيا وحقيقيا، مع تقديم وصفة للعلاج.
وقد وضعت الرسالة الملكية اليد على الجرح باعتبارها رهانات، تحدث فيها عن الحسابات السياسية والحزبية الضيقة، والتي تحول دون أداء البرلمان المغربي لمهامه، مع إثارة موضوع منظومة القيم والأخلاق كمرجعية تؤطر العمل البرلماني، بالإضافة إلى الاحتكام لمنطق الوزيعة العددية والاستقواء الكمي، وإقصاء باقي القوى الحية وإغفال مبدأ التمثيلية، وأهلية وكفاءة النخبة السياسية، مما بنعكس ضد واجهة المغرب.
وفي هذا الإطار قدم الملك محمد السادس وصفة علاجية، من خلال السمو بالعمل البرلماني، والعمل على الرفع من جودة النخب البرلمانية والمنتخبة، وتخليق الحياة البرلمانية، والارتقاء بالديمقراطية التمثيلية المؤسساتية، وتكريس ثقافة المشاركة والحوار، وتعزيز ولوج النساء والشباب بشكل أكبر إلى المؤسسات التمثيلية.
كما قدم توجيهاته لإحداث مدونة للأخلاقيات ذات طابع قانوني في المؤسسة التشريعية، فضلا عن تحقيق الانسجام بين ممارسة الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين على غيرها من الحسابات الحزبية، وإعادة وتعزيز الثقة في المؤسسات بما فيها المنتخبة، لنشر قيم الديمقراطية وترسيخ دولة القانون؛ من أجل التقدم والرخاء للشعب المغربي، وإظهار مستوى يشرف المغرب.
وعيله، فإن الرهانات تستدعي أن تصبح مكتسبات، بالموازات مع الأوراش الإصلاحية الكبرى، والمشاريع الهيكلية؛ مما سيزيد بأثر بليغ في تحقيق النتطلعات المرجوة، عبر منهجيةُ تعكس الوجه الإيجابي الآخر للديمقراطية المغربية وتَفَرُّدِها، وتجسيد الهدف الأسمى المتمثل في فصل السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة؛ حيث أنها رسالة تعكس التوجه الصارم من أجل الجدية وتوقيع المحاسبة، مادمت الشروط متوفرة للعمل البرلماني.