محاربة كل أشكال الفساد من مسلمات المغرب الامة - الدولة لكن دون استغلالها لخدش صورة الوطن

شكلت سنة 2023 مرحلة حاسمة في المشهد السياسي الديمقراطي المغربي، بعد توالي ملفات الفساد المحالة على القضاء، تهم شخصيات سياسية بارزة ونافذة، من داخل مؤسسات الدولة.

كما تؤثث التطورات الأخيرة بعد سقوط كل من الوزير السابق "مبدع" و"الراضي" و"الزايدي" و"الحيداوي" على التوالي، ثم "الناصري" و"البعيوي"، والعديد من المسؤولين السياسيين؛ إلى انبثاق عهد جديد، يجسد دسترة ربط المسؤولية بالمحاسبة، واكمال مسلسل الإصلاح.

لكن ما يثير الإنتباه في هذا الصدد، هو محاولة بعض الخصوم ضرب سمعة المغرب، وتشويه واجهته على المستوى الخارجي، ورسم صورة سودوية داخل الوطن؛ رغم أن محاربة الفساد، مطلب محل إجماع بين كل مكونات الأمة المغربية، وشعار يتنباه كل الفاعلين.

في هذا الإطار، تم استغلال المتابعات القضائية لبعض السياسيين المغاربة، على أنه دليل يؤشر على استفحال ظاهرة الفساد، رغم أن الفساد منتشر عبر بقاع العالم؛ إلا أن الفرق يكمن، في امتلاك أجهزة الدولة الشجاعة الكافية لإثارته.

كما تجدر الإشارة إلى أن التجارب الديمقراطية الرائدة، بما فيها بريطانيا وأمريكا وإسبانيا، تشهد في كل مرة انفجار فضيحة سياسية، وبشكل متواصل ومستمر، تهم رؤساء وأشخاص من داخل العائلة الملكية؛ إلا أن تلك الدول لا تجد حرجا في تحريكها، ومساءلة المتورطين مهما بلغ شأنهم.

فخير مثال على ذلك، تورط والد رئيس وزراء بريطانيا السابق "ديفيد كاميرون" في تهريب الأموال وعدد من النواب المحافظين، وفضيحة "بيل كلينتون" مع الخادمة، بالإضافة إلى العاهل الإسباني الأسبق والد الملك الحالي المتورط في الفساد، وأمراء من العائلة الملكية البريطانية في فضائح جنسية.

وفي كثير من الأحيان كان يضرب المثل بهته التجارب، باعتبار أن متابعة شخصيات عالمية بارزة ونافذة، في قضايا تهز الرأي العام الدولي؛ يؤشر على وجود مشهد سياسي وديمقراطية متطورين، حيث لا أحد يعلو فوق القانون.

كما أن غياب إثارة قضايا من هذا النوع، يؤكد انغماس الدولة في الفساد؛ فلا يمكن بتاتا تصور وجود دولة افلاطونية، ومن المستحيل أن يتقدم المشهد السياسي الديمقراطي نحو الأفضل، دون ربط للمسؤولية بالمحاسبة، المقرونة بالردع لتقليص مؤشر الفساد، والمساهمة في تطوير مؤشر التنمية.

فالمغرب ظل ،ولازال يشق طريقه خطوة بخطوة نحو الأفضل، عبر تبني إصلاحات هيكلية رغم ما يعاب عليها، إلا أنه لا يمكن تصور الكمالية، ومع ذلك حقق الاستثناء في المنطقة والقارة، بالمقارنة الأفقية مع دول الإقليم؛ من خلال تطوير منظومة الديمقراطية وحقوق الإنسان، و المنجزات الاجتماعية والاقتصادية، رغم ضعف الموارد.

فخير دليل على ذلك هي محطة 2010، حيث أن المغرب استطاع امتصاص تأثير صدمة الربيع العربي بشكل استباقي، عبر تحقيق متنفس حقوقي وديمقراطية، واستثمر الأزمة لتحقيق مزيد من الإصلاحات، بدل تقويض استمرارية الدولة نحو المجهول.

بينما الإصلاح لا يأتي هكذا ضربة واحدة، إنما يحتاج إلى محطات ومرحلة انتقالية، تكاد تكون صعبة ولها تداعياتها، تؤثر على المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي؛ غير أن نتائجه المرجوة لتحقيق التنمية المستدامة، تشكل رهان يجب الوصول إليه مهما بلغت التكلفة.

فالكثير من الدول لا تمتلك الشجاعة لخوض هذا الخيار الاستراتيجي، بينما تكتفي بتلميع المشهد العمومي عبر مسكنات للآلام، دون معالجة المرض الحقيقي الذي يفتك الدولة، ألا وهو الفساد، خصوصا عندما يكون مهيكلا؛ مخافة التداعيات المذكورة آنفا، ما يؤدي إلى مزيد من الضغط، دون تنفيس المشهد الديمقراطي والحقوقي والسياسي، ما يهدد بانفجار داخلي محتمل.

فبينما عاش المغرب تجربة فريدة من نوعها في المنطقة بعد 2010، إلا أن بعض الدول لم تستطع تجاوز تلك المحطة، نتيجة لقوة الضغط وتراكم المشاكل، ومعالجة تلك المشاكل عبر تلميع صورتها بشكل مزيف، دون متنفس حقوقي وديمقراطية حقيقية؛ بل تجاوزت دول متقدمة من حيث المثالية، وتصور الدولة بشكل مبالغ فيه.

فلا يمكن تصور وجود ملفات فساد في دول ديمقراطية عريقة وهي حقيقية، عصفت بكبار السياسيين، آخرها قنبلة "إبستاين" الجنسية؛ بينما تغيب قضايا ملفات الفساد في دول من العالم الثالث، وهو منطق ليس سليم، من خلال التستر عبر التلميع، لأنه يؤشر على التخلف، و التطبيع مع الفساد، خصوصا حينما يكون مهيكل.

وعليه، فإن ما يعيشه المغرب اليوم، هو محطة من محطات الإصلاح التي انخرط فيها المغرب منذ سنين مضت، وأن مرحلة اليوم تتسم بتفعيل مبدأ الجدية والمسؤولية والمحاسبة، دون أن يعلو أي أحد فوق القانون؛ تجسيدا لقاعدة سيادة القانون.

إذن، فإن محاولة تشويه صورة المغرب لأنه يحارب الفساد، بكشف وإثارة الفساد؛ ليس تعبير قدحي، إنما مؤشر على انخراطه الجدي في منظومة الإصلاح، والتزامه بتعهداته أمام المجتمع الدولي والشركاء الدوليين، لتعزيز الثقة المنشودة في المغرب؛ كشريك موثوق وذو مصداقية.

فتطلع المغرب لأن يكون مصاف الدول الكبار، هو الدفاع الذي جعله يكشف أوراقه بكل واقعية دون خجل، كفاعل وشريك مع الفاعلين الدوليين؛ كما هو الحال بالنسبة للتجارب السياسية والديمقراطيات العريقة، التي ابهرتنا في كثير من الأحيان بمتابعات تهم شخصيات سياسية نافذة، دون أن تسلم من المحاسبة.

فما يعيشه المغرب اليوم من تحريك لملفات الفساد، ضد شخصيات وازنة في البلاد، هو مؤشر إيجابي ومصدر اعتزاز، يؤكد مصداقية الشعارات التي رفعت، بالرغم من الانتكاسات في محطات ما؛ إلا أن المغرب يمكن أن يمرض، لكنه يعود بقوة من أي انتكاس، لأنه يتطلع لأن يكون قوة إقليمية، والتعافي من الصدمات يقوي مناعته.

لكن راهن الصعود كقوة إقليمية، يزيد من حجم التنافسية في الساحة الدولية، كلما كان الصعود قويا؛ ما يدفع المنافسين والخصوم لاستغلال أي معطى كيفما كان، لتشويه واجهة المغرب كيفما كانت، ولو كانت ايجابية كما هو الحال بالنسبة لوضع يد القضاء على ملفات، تهم شخصيات نافذة في المغرب، ما يجعلها مصدر اعتزاز للمغرب.

فلا يمكن استثمار هته الخطوة المغربية المباركة بطريقة مسيئة، والتي ثمنها مختلف اطياف الشعب المغربي؛ إلا من قبل ما يرى المغرب منافس محتمل ومزيح له مستقبلا من الساحة التنافسية، أو من قبل خصوم المملكة، لأن كل من يستشرف المستقبل، يتنبأ للمغرب بمستقبل جيد، تؤكدها خطوة المتابعات القضائية ضد سياسيين مغاربة.

وتجدر الإشارة إلى أن الخصوم لا يمتلكون الشجاعة لإثارة مثل هته القضايا، ويكتفون فقط بتلميع صورة البلد، مثلما وقع لفرقة العزف في سفينة "تيتانيك"، خوفا من مواجهة الحقيقة، عندما استمروا في العزف بينما السفينة تغرق.

فالعالم يشهد تطورات مجهولة العواقب، والتي تنعكس ضد مستقبل الدول، ولن يسلم من التطورات والمخاطر المستقبلية، إلا الدول القوية، التي استطاعت مواجهة التحديات والكشف عنها وتشخيصها، وإثارتها ومعالجتها، دون أي خجل أو تستر، ما يشكل متنفس أمام الصدمات المستقبلية.

كما أن كشف الحقيقة حول قضايا تهم الفساد الهيكلي، يسهل عملية التطهير، ويمنح للمراقب شفافية واضحة أمام الدولة، دون أن تكون لديها صورة ضبابية؛ من يجعل منها قطبا جذاب، لأنه السؤال الذي يبدر إلى ذهن المستثمر والمانح والشركاء، حول المعطيات والأرقام، وتفاعل أجهزة الدولة، بما فيها قدرة القضاء على متابعة الشخصيات النافذة.

وختاما، يمكن القول أن غياب أي مؤشرات أو معطيات أو أرقام حول الفساد، لا يعني مؤشر إيجابي، لأن مثل هته المعطيات المثالية، لا يمكن أن نشهدها إلا في الدول المتخلفة، بينما الدول المتقدمة، تعرف إثارة قضايا من هذا النوع بشكل مستمر، لأنها تؤمن بالديمقراطية وسيادة القانون؛ الأمر الذي يؤكد مرة أخرى، أن المغرب استثناء في المنطقة ومنافس قوي مستقبلا، رغم بعض الانتكاسات.