المسير الخضراء... قصة إدخال نظام البيعة الإسلامي في قاموس الأمم المتحدة

كلما حلت ذكرى المسيرة الخضراء، إلا وعاد إلى الأذهان موضوع البيعة، الذي يربط بين الملك ورعاياه، وهو مصطلح نابع من هوية مغربية إسلامية، ظل المغاربة يقاومون ويناضلون من أجل الحفاظ عليه، بعد محاولات بئيسة لاستئصاله، بغية طمس الهوية المغربية الأصيلة الضاربة في عمق التاريخ، ورمز تماسك الأمة.

فقد تميزت حضارتنا المغربية عن مثيلاتها بـ "نظام البيعة"؛ وهو المفهوم التراثي للحضارات الإسلامية، الذي ظل غائبا عن الفلسفة السياسية الغربية، والتي كانت تختلف فيها أشكال الحكم وفق تصورات مختلفة، قبل التأثيث لمفهوم العقد الاجتماعي؛ بينما كان يقوم النظام السياسي في الإيالة الشريفة المغربية على البيعة، التي تعني الطاعة والولاء، وإشراك الرعية في المنظومة السياسية، والتي كان يستمد فيها الحاكم شرعيته من أهل الحل والعقد، قبل بزوغ مفهوم الدولة الحديثة.

وبالرجوع إلى الأصل الشرعي لهذا المفهوم، نجدها ممارسة ميزت دولة المدينة تحت رعية النبي محمد، بعد أن تلقى بيعة أولى وثانية سميتا على التوالي ببيعة العقبة وبيعة الرضون، تلقاها من صحابته ومختلف الطوائف المسلمين؛ وقال فيها نبي الإسلام: "من مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية".

وانطلاقا من هذا التأصيل، ظلت البيعة ممارسة يستمد منها الحاكم شرعيتها، عبر قطع العهد والوعد على الولاء والطاعة من الرعية للحاكم، بينما يقابله الحماية والتأمين على عهدة الحاكم من شر أو مكروه، ويترتب عليها الانتماء للدولة، وأداء مستحقات بيت مال المسلمين، والاستجابة للحرب فور أي إعلان من الحكام.

وفي ظل توالي الدول والأنظمة في العالم الإسلامي، درجت كل الحضارات تنهج نفس الأسلوب في حكمها، بما فيها المغرب أقدم إمبراطورية إسلامية التي ظلت مستمرة، وحافظت على تواجدها منذ تاريخ طويل، ولازالت تتمتع بنفس الممارسة، تمزج بين الماضي والحاضر، بين أركان الدولة الحديثة والشرعية الواقعية المستمدة من التاريخ، والتي ظلت عنوان للاستقرار والاستمرار، عبر رابط البيعة بين الرعية المغربية وأمير المؤمنين.

وقد بقي المغاربة متمسكون بهذا النظام السياسي، حتى في لحظة الضعف خلال الحماية الفرنسية، بعد أن حاول النظام الفرنسي إنهاء رمز الأمة المغربية، عبر نفي سلطانها رمز تماسكها قصد تشتيتها، وإضعافها والقطع مع مطالب الاستقلال؛ إلاّ أن المغاربة انتفضوا، وعاشت فرنسا بفعلتها أيام سواد ثم قررت التنازل على محاولتها البائسة، إلى أن تلاها استقلال بعد سنين قليلة، بفضل التفاف المغاربة حول سلطانهم.

ولم يقف طموح السلطان عند هذا الحد، بل بقي متعطشا لاستكمال وحدته الترابية، والإقدام على مشروع مغاربي كبير، ودعم المقاومة الجزائرية بالوسائل الديبلوماسية واللوجستية، حتى يتمكنوا من حقوقهم المشروعة، والاستقلال عن فرنسا التي كانت تعتبر الجزائر مقاطعة، حتى تمكن الجزائر من الحصول على مرسوم يعترف بها، غير أن الطموح أحبط بعد انقلاب شيوعي عن المقاومة بشكل مدبر من فرنسا، وعاد الحكم في الجزائر للنظام الشيوعي.

فالنظام الشيوعي الجزائري، جاء بعد اعتراف من الجنرال "دغول" عبر مرسوم، بكون الجزائر مقاطعة فرنسية تتمتع بحم ذاتي باطنيا وباعتراف الأمم المتحدة، وظاهرية كدولة مستقلة، بعد المؤازرة والدعم اللامشروط من قبل السلطان المجاهد محمد الخامس للمقاومة الجزائرية، من منطلق الوازع الروحي.

وخوفا من إعلان البيعة والولاء من الجزائريين لسلطان المغربي، ابتدع الغرب خطة جهنمية، وهو تدبير انقلاب ضد المقاومة من قبل الشيوعيين، ونشر عقيدة عسكرية وشيوعية، خطها البارز العداء للمغرب، واتخاذ مواقف هجومية ضد المغرب، والانقلاب على التكتل المحتمل بين المغرب والجزائر، لكونه يؤرق الغرب والشرق، ما أدى إلى إشعال فتيل صراعات مسلحة بينهما.

وبعد نشوب الصراع حول الحدود مغربية، من قبل الجيش الجزائري الذي كان يستمد أفكاره من المذهب الشيوعي الراديكالي المادي، والرافض لكل ما هو وجداني روحي، والذي عرف بالمد الشيوعي، شمل انقلابات ضد الأنظمة التي تستمد شرعيتها من التاريخ والإسلام، بغية القضاء على كل ما من شأن أن يعارض المذهب الشيوعي؛ بما يخدم مصلحة الغرب والشرق، والقضاء على الهوية حتى لا تكون محل إجماع وقوة، ضد أجندة دول الشمال.

وبعد فشل الجزائر ومن معها في زعزعة استقرار المغرب، بعد أن تكبدوا هزيمة من المغرب، ظلوا يحاولون استئصال هذا المفهوم عبر تطعيم الطابور الخامس وتجنيده ضد السلطة الحاكمة، بتواطؤ مع الغرب عدو الشرق من مصلحة واحدة؛ ألا وهي إضعاف الأنظمة العريقة لتكون فريسة سهلة، دون أن تكون محل تهديد ومنافسة، وإجهاض عملية استكمال تحرير الأراضي المغربية من الاحتلال، في ظل المناشدة من الرعية في الأراضي المحتلة.

ورغم كل هاته المحاولات، فشلت كل المذاهب المادية في إزاحة الوازع الوجداني لرابط البيعة بين أمير المؤمنين والرعية المغربية، واستكمل المغرب تحت قيادة جلالة المغفور له الملك الراحل الحسن الثاني رحمة الله لوحدته الترابية؛ فيما بقيت المناطق الجنوبية للمغرب تحت الاحتلال الاسباني الرافض للتحرير الصحراء المغربية من قبضته.

وظلت إسبانية تتخبط في اقتراح حلول للوضع، بعد تنامي النزاع حول المناطق الجنوبية للمغرب، بين خيرات ديمقراطية متحايلة، وعرضها على الأمم المتحدة، غير أن المغرب ابتدعت حيلة عبقرية، مفادها طلب رأي استشاري من الأمم المتحدة عبر محكمة العدلة الدولية، والذي أقرت بوجود بيعة بين السلطة المركزية وسكان الأقاليم الجنوبية.

هذا القرار التاريخي، تبننى مصطلح إسلامي ضمن قموس الأمم المتحدة، بعد مرافعة خاضها المغاربة بشأن مفهوم البيعة؛ وانتزع المغرب اعتراف قانوني من محكمة العدل الدولية، بشأن ولاء القبائل الصحراوية لملك المغرب، ووجود رابط البيعة.

وفي نفس اليوم بـ 16 أكتوبر من سنة 1975، الذي أشهد الملك الراحل الحسن الثاني العالم على رابط البيعة بين سكان الأقاليم الصحراوية وأمير المؤمنين، بموجب رأي استشاري صادر على محكمة العدل الدولية، في وجه الاحتلال الاسباني باعتراف أممي سنة 1974؛ خاطب الأمة المغربية من أجل تنظيم مسيرة سلمية، لاسترجاع الأقاليم الصحراوية الجنوبية للمغرب، ووضع حد للاستعمار الإسباني.

وجاء في نص الخطاب، أن الغاية هي صلة الرحم مع إخواننا في الصحراء، ثم عاد وخاطب الشعب المغربي يوم 14 من نفس الشهر وقال؛ "منذ سنة ومنذ ونحن نخطط ونحن نرسم ونحن نجمع الحجج تلو...، الحجج التاريخية والقانونية والبشرية......... للعالم... حتى.... حتى يؤمن بحقوقنا.

ثم قال في نفس الخطاب؛ "قضيتنا سنة كلها ونحن ليل نهار حتى يمكننا أن نلتقي بك شعبي العزيز في الصحراء أن نلتقي بك في مسيرة غراء مسيرة مبنية على رؤى حققها الله سبحانه وتعالى، ولندخل صحراءنا إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين وغير خائفين وسنلقاكم تنتظرونا مستبشرين فرحين.

وفي 5 نوفمبر من سنة 1975، وجه الملك الحسن الثاني خطاب من مدينة أكادير، للنساء والرجال المشاركين في ملحمة المسيرة الخضراء؛ قائلا: "شعبي العزيز، غداً إن شاء الله ستخترق الحدود، غداً إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غداً إن شاء الله ستطؤون أرضاً من أراضيكم وستلمسون رملاً من رمالكم وستقبلون أرضاً من وطنكم العزيز".

كما نبه جلالة المغفور له جميع رعاياه في خطابه؛ قائلا: "إذا ما لقيت إسبانياً......، عسكرياً أو مدنياً، فصافحه وعانقه واقتسم معه مأكلك ومشربك وأدخله مخيمك، فليس بيننا وبين الإسبان غل ولا حقد، فلو أردنا أن نحارب الإسبان لما أرسلنا الناس عزلا بل لأرسلنا جيشاً باسلاً، ولكننا لا نريد أبداً أن نطغى ولا أن نقتل ولا أن نسفك الدماء بل نريد أن نسير على هدى وبركة من الله في مسيرة سلمية".

وأشار الملك الحسن الثاني في خطابه إلى أن الحالة الوحيدة التي سيلجأ فيها إلى استخدام القوة هي إذا تعرض المتطوعون لاعتداء قادم من جهة أخرى من غير الإسبان، حيث قال في خطابه: «وفيما إذا اعتدى عليك المعتدون من غير الإسبان، شعبي العزيز في مسيرتك، فاعلم أن جيشك الباسل هو موجود، مستعد لحمايتك ووقايتك ضد كل من أراد بك السوء.

ومن هذا المنطلق، أدخل الملك الراحل نظام البيعة في قاموس الأمم المتحدة، وأشهد العالم على شرعية نظام الحكم في مغرب على صحرائه، وانتزع اعتراف أممي وفتوى من محكمة العدل الدولية، برابط البيعة بين سكان الأقاليم الجنوبية وأمير المؤمنين؛ غير أن الإشهاد الحقيق هو الملحمة التاريخية التي إلتحم فيها الشعب والحكم، استجابة لنداء الأمة المغربية الصحراوية تحت الاحتلال الإسباني، مما أعاد النزاع لنقطة الصفر وإعادة ترتيب الأوراق وفق الحقوق المشروعة والتاريخية للمغرب على صحرائه.