صحافتنا الرقمية ليست بخير: أزمة مهنة في عصر التحول السريع

يأتي اليوم العالمي لحرية الصحافة هذا العام في الثالث من ماي  وسط تحولات عميقة تشهدها المهنة على المستوى العالمي وتحديات غير مسبوقة على الصعيد المحلي.

لم تعد الصحافة كما عرفناها، واقع جديد فرضته التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتحولات عميقة في سلوك الجمهور ونماذج الأعمال والممارسة المهنية.

نعيش اليوم حالة من الفوضى الرقمية الإعلامية،  في زمن كان يفترض أن تزدهر فيه الصحافة بفضل الإمكانيات الهائلة التي أتاحتها التكنولوجيا، وجدنا أنفسنا أمام مشهد يعاني من تشوهات عميقة.

الاستقطاب السياسي الحاد يطغى على العناوين، والتشهير أصبح سلاحاً يستخدم بلا رادع أخلاقي، والبث المباشر يُطلق بدون أدنى ضوابط مهنية.

نشهد مشاهد سريالية أصبحت مألوفة: فنان أو سياسي محاصر بعشرات الميكروفونات في مشهد فوضوي، تُطرح عليه أسئلة لا علاقة لها بالحدث أو الموضوع، وكل ذلك باسم "الصحافة". المهنة التي كانت يوماً ما تُعرف بالسلطة الرابعة، أضحت في كثير من الأحيان منصة للإثارة الرخيصة والتصيد والسبق غير المهني.

لا يمكن الحديث عن حالة صحافتنا الرقمية دون التطرق إلى ظاهرة اليوتيوبرز وصناع المحتوى الذين تقمصوا أدوار الصحفيين بين ليلة وضحاها. هؤلاء الذين ما كانوا ليجدوا لأنفسهم موطئ قدم في المشهد لو كانت صحافتنا المهنية بخير وتمارس دورها كما يجب.

لقد وجد البعض في أساسيات الصحافة وسيلة سهلة للربح، دون الالتزام بأخلاقياتها ومسؤولياتها. أصبح المؤثرون يفتون في أخلاقيات المهنة ويروجون للأخبار الزائفة، في الوقت الذي تعاني فيه المؤسسات الصحفية التقليدية من أزمات مالية خانقة تهدد استمراريتها.

هذا الخلط الكبير بين صناعة الأخبار وصناعة المحتوى "كيفما كان شكله" هو أحد أعراض الأزمة العميقة التي تعيشها الصحافة الرقمية. لقد أصبح كل من يملك هاتفاً ذكياً وحساباً على منصات التواصل الاجتماعي "صحفياً" في نظر البعض، وهو ما شوه مفهوم المهنة وأضعف مصداقيتها.

عندما نتحدث عن أن صحافتنا الرقمية ليست بخير، فذلك لأننا نشهد مؤشرات واضحة على تدني مستوى المهنية والجودة. مواقع أنشئت على عجل لأغراض غير مهنية، لا تتوفر على أبسط شروط قابلية الاستخدام، لغة ركيكة، مقالات متقادمة، أخبار منقولة حرفياً دون الإشارة للمصدر، وتقنيون غير مؤهلين لطرح الأسئلة أو كتابة خبر بشكل سليم.

المحتوى المقدم متشابه جداً ويكاد يكون نسقا واحدا، يفتقر إلى الإبداع والتنوع الذي يميز الصحافة المهنية الجادة. المؤسسات الإعلامية ارتكنت إلى الأساليب التقليدية في الصناعة، غير قادرة أو غير راغبة في مواكبة التطورات المتسارعة في عالم الإعلام الرقمي.

من المفارقات المؤلمة أن صناعة المحتوى الرقمي تمتلك آفاقاً واعدة عالمياً، لكن المستثمرين لدينا لا يثقون في هذا المجال. النموذج الاقتصادي للصحافة الرقمية ضعيف وغير مستدام، مما يجعل المؤسسات الإعلامية غير قادرة على توظيف الكفاءات والاستثمار في التقنيات الحديثة والتطوير المستمر.

في ظل هذا الواقع، أصبحت الصحافة الرقمية تعتمد على نماذج تمويل هشة تؤثر سلباً على استقلاليتها ومهنيتها. البحث المحموم عن النقرات والمشاهدات يدفع بالكثير من المواقع إلى الانزلاق نحو المحتوى الإثاري على حساب الجودة والعمق والمصداقية.

صحافتنا الرقمية ليست بخير لأن التكوينات المرتبطة بالمستقبل ضعيفة جداً ولا ترقى إلى ما نعيشه أو تعيشه المهنة من تحولات على مستوى العالم. لا زالت برامج التكوين تقليدية في معظمها، لا تواكب التطورات المتسارعة في مجال تقنيات الإنتاج الرقمي، الذكاء الاصطناعي، صحافة البيانات، والتحقق من المعلومات.

في عصر تتزايد فيه الحاجة إلى مهارات متعددة ومتجددة، لا تزال مؤسساتنا التعليمية والتدريبية غير قادرة على إعداد جيل جديد من الصحفيين المسلحين بالكفاءات اللازمة للنجاح في البيئة الرقمية الجديدة.

من أخطر مظاهر أزمة صحافتنا الرقمية هو افتقادها إلى سردية صلبة وآليات فعالة للتحقق من المعلومات، مما يجعلها هشة أمام موجات التضليل والأخبار الزائفة. خبر زائف واحد يمكنه تحريك الجمهور وإثارة البلبلة دون أن يكون هناك من يتصدى له بشكل سريع ومهني.

غياب مدققي الحقائق القادرين على صد التضليل في حينه يمثل ثغرة خطيرة في منظومتنا الإعلامية الرقمية.

في عصر أصبحت فيه المعلومات المضللة سلاحاً في حروب الجيل الخامس، أصبح هذا النقص يمثل تهديداً ليس فقط لمصداقية الصحافة، بل للأمن المعلوماتي والاستقرار المجتمعي.

المجلس الوطني للصحافة، الذي من المفترض أن يكون راعياً للمهنة وضامناً لجودتها ومصداقيتها، مطالب اليوم بالاستثمار في تدريبات حديثة تتوافق والزخم الرقمي التكنولوجي. المجلس ينبغي أن يكون في قلب التطوير والتحديث.

في وقت تحتاج فيه المهنة إلى تنظيم ذاتي قوي وفعال، يبدو أن الآليات التنظيمية القائمة غير قادرة على مواكبة سرعة التحولات وضبط الممارسات المهنية في الفضاء الرقمي.

إن استعادة صحافتنا الرقمية لعافيتها ودورها الحقيقي يتطلب رؤية استراتيجية واضحة ومبادرات جريئة على عدة مستويات:

1. الاستثمار في صناعة الإعلام الرقمي

يجب أن يكون الاستثمار في صناعة الإعلام الرقمي أولوية وطنية، من خلال توفير بيئة تشريعية واقتصادية محفزة تشجع المستثمرين على ضخ رؤوس الأموال في هذا القطاع الحيوي. نحتاج إلى نماذج اقتصادية مبتكرة تضمن استدامة المؤسسات الإعلامية وتحررها من الضغوط التي تؤثر على استقلاليتها ومهنيتها.

2. تطوير برامج التكوين والتأهيل

لا بد من إعادة النظر في برامج التكوين والتأهيل في مجال الصحافة الرقمية، بما يضمن إعداد جيل جديد من الصحفيين المتسلحين بالمهارات التقنية والمهنية اللازمة للنجاح في البيئة الرقمية. التكوين المستمر والتحديث الدائم للمهارات يجب أن يكون ثقافة راسخة في المؤسسات الإعلامية.

3. تعزيز آليات التحقق من المعلومات

تطوير منظومة متكاملة للتحقق من المعلومات ومكافحة الأخبار الزائفة، من خلال إنشاء منصات متخصصة في تدقيق الحقائق، وتدريب الصحفيين على تقنيات التحقق الرقمي، وتشجيع ثقافة المساءلة والتصحيح الذاتي.

4. تحديث الإطار التنظيمي والأخلاقي

تطوير مواثيق أخلاقية جديدة تتناسب مع الواقع الرقمي، وتعزيز آليات التنظيم الذاتي الفعالة القادرة على ضبط الممارسات المهنية في الفضاء الرقمي، مع الحفاظ على التوازن الدقيق بين حرية التعبير ومسؤولية الإعلام.

5. تشجيع الإبداع والتنوع في المحتوى

دعم المبادرات الإعلامية المبتكرة التي تقدم محتوى متنوعاً وعميقاً، وتستفيد من الإمكانيات الهائلة التي توفرها التكنولوجيا الرقمية في سرد القصص وتقديم الأخبار بطرق جذابة ومؤثرة.

في هذا اليوم العالمي لحرية الصحافة، علينا الاعتراف بأن صحافتنا الرقمية ليست بخير، لكن هذا الاعتراف هو الخطوة الأولى نحو العلاج. نحن ندخل مرحلة دقيقة في تاريخ صناعة الرأي العام وحروب الجيل الخامس، وهذا يتطلب منا اليقظة والعمل الجاد لاستعادة مكانة الصحافة ودورها الحيوي في المجتمع.

إن تحويل صحافتنا الرقمية من منصات للنقل والتقليد إلى صناعة حقيقية للمحتوى المؤثر والهادف ليس ترفاً، بل ضرورة مجتمعية واستراتيجية. في عصر أصبحت فيه المعلومة سلاحاً والرأي العام معركة، تزداد الحاجة إلى صحافة مهنية، مستقلة، جريئة، ومسؤولة.

لنجعل من هذا اليوم مناسبة ليس فقط للتذكير بأهمية حرية الصحافة، بل أيضاً للتفكير الجماعي العميق في سبل النهوض بها وضمان قيامها بدورها المنوط بها في بناء مجتمع المعرفة والديمقراطية.