تعيش مختلف عمالات المملكة هذه الأيام على وقع تحركات غير مسبوقة، بعد قرار وزارة الداخلية تولّي زمام الإعداد للجيل الجديد من برامج التنمية الترابية، في ظل ما اعتبرته مصادر مطلعة “عجزاً واضحاً” للمجالس المنتخبة عن الاستجابة لأولويات السكان وتفاقم اختلالات التنمية، خاصة في الضواحي والمناطق الهشة.
ففي خطوة تعكس تغيّراً في طريقة تدبير الشأن المحلي، شرعت العمالات في صياغة ما يشبه “نموذجاً تنموياً محلياً جديداً”، يقوم على مقاربة تشاركية واسعة، تجمع المنتخبين والفاعلين المحليين ورؤساء الجماعات، إضافة إلى ممثلي القطاعات العمومية والجمعيات النشيطة في التنمية. وتهدف هذه اللقاءات، التي تُعقد بشكل مكثف في الأسابيع الأخيرة، إلى وضع أسس رؤية تنموية واضحة ومحددة، تكون بمثابة خارطة طريق ملزمة للمجالس المنتخبة المقبلة.
ولأول مرة، تبادر العمالات إلى فتح بوابات إلكترونية وفضاءات تفاعلية لاستقبال مقترحات المواطنين حول أولويات التنمية في أقاليمهم، وذلك بهدف إشراك الساكنة في صياغة البرامج بدل الاكتفاء بالتصورات التقنية أو الحزبية. وترى مصادر أن هذا التوجه يعكس رغبة حقيقية في القطع مع التجارب السابقة التي كثيراً ما تجاهلت الحاجيات الفعلية للسكان.
هذا التحوّل جاء بعدما وجدت العمالات نفسها أمام واقع تنموي معقد، نتج عن تراكم إخفاقات عدة مجالس محلية وإقليمية، غارقة في الصراعات السياسية الضيقة، وعاجزة عن تقديم حلول عملية لمشاكل البنية التحتية والخدمات الأساسية. فغياب الرؤية وارتباك الأولويات، حسب متابعين، أدى إلى هدر الزمن التنموي وإضعاف الثقة في العمل الجماعي، بل وتبديد موارد مالية مهمة دون نتائج ملموسة.
ويُنتظر أن يشكّل هذا الجيل الجديد من البرامج التنموية انقلاباً هادئاً في طريقة تدبير التنمية المحلية، باعتباره وثيقة مرجعية ستُلزم المنتخبين بتنفيذ مشاريع قابلة للقياس وذات أثر مباشر على حياة المواطنين. كما يُرتقب أن يسد فجوة كبيرة خلّفتها الأحزاب السياسية التي أخلفت الموعد مع مهامها الدستورية، وفشلت في تقديم برامج تنموية تستجيب لانتظارات الناخبين.
اللقاءات التشاورية التي شهدتها العمالات خلال الأيام الماضية، والتي ترأسها العمال شخصياً، تميّزت بحضور مكثف للفاعلين المحليين، من رؤساء جماعات وممثلي المصالح الخارجية وجمعيات المجتمع المدني. وقد ركزت النقاشات على ضرورة صياغة برامج مندمجة تستحضر العدالة المجالية والحكامة الترابية، انسجاماً مع التوجيهات الملكية الواردة في خطاب العرش الأخير، الذي شدد فيه جلالة الملك على ضرورة معالجة الفوارق المجالية وتحسين ظروف عيش المواطنين.
ولم تخلُ كلمات العمال من نبرة حادة في بعض الأحيان، إذ شددوا على ضرورة أن تكون المشاريع ذات أثر مباشر على الحياة اليومية للساكنة، وأن تشمل تعميم الخدمات الأساسية والمرافق الحيوية، خصوصاً في المناطق التي تعرف خصاصاً حاداً دفع في السنوات الأخيرة إلى احتجاجات ومسيرات مطالبة بالتنمية.
وبينما تواصل العمالات ورش إعداد هذه البرامج، تتجه الأنظار إلى ما إذا كان هذا الجيل الجديد من التخطيط التنموي سينجح في تجاوز أخطاء الماضي، وإعادة الثقة في السياسات الترابية، ووضع أسس تنمية عادلة وفعالة تلامس فعلياً انتظارات المواطنين.