في خطاب قوي ومباشر بمناسبة عيد العرش، دعا الملك محمد السادس إلى اعتماد المنظومة المؤطرة لانتخابات مجلس النواب المقبلة قبل نهاية سنة 2025. هذا التوجيه الملكي، الذي جاء في توقيت بالغ الأهمية، يعكس رغبة واضحة في تحصين العملية الانتخابية من التجاذبات السياسية الضيقة، التي عادة ما تشتد مع اقتراب الاستحقاقات. وقد أكد الملك أن هذا الإجراء سيمكن من توفير حيز زمني كاف لبناء توافقات سياسية ناضجة ومسؤولة، تسبق الحملات الانتخابية وتُجنّب البلاد أي ارتباك مؤسساتي أو تشكيك في قواعد التنافس الديمقراطي.
تكليف مباشر لوزارة الداخلية وإطلاق المشاورات
الخطاب الملكي لم يكتف بالتوجيه العام، بل تضمّن تكليفًا صريحًا لوزير الداخلية بالإعداد الجيد للانتخابات المقبلة، وفتح باب المشاورات مع مختلف الفاعلين السياسيين. هذه الدعوة تعكس إشرافًا مباشرًا من المؤسسة الملكية على حسن تدبير المرحلة المقبلة، بما يضمن الشفافية والتوازن، ويحدّ من محاولات الالتفاف على روح التعددية والديمقراطية. فتح المشاورات مبكرًا يُفهم منه أيضًا أن الملك يريد أن يقطع الطريق على من يربطون قوانين اللعبة السياسية بأهداف انتخابية قصيرة المدى، وهو ما يعزز الطابع المؤسساتي للمسلسل الديمقراطي.
ارتباك سياسي واستنفار حزبي
مباشرة بعد صدور الخطاب، دخلت جل الأحزاب المغربية في حالة من الاستنفار غير المعتاد، عبّرت عنه من خلال عقد اجتماعات داخلية عاجلة ومشاورات موسعة بين قياداتها. وقد بدا واضحًا أن الخطاب وضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وأخرج العمل الحزبي من رتابته المعتادة. الأحزاب الكبرى شعرت بضرورة التحرك السريع لتفادي أي تأخر في تقديم مقترحاتها بشأن إصلاح القوانين الانتخابية، بينما رأت أحزاب أخرى في هذا المناخ فرصة لإثبات حضورها والتأثير في مخرجات المشاورات، خصوصًا فيما يتعلق بنظام الاقتراع، وتوسيع قاعدة التمثيلية، وضمان ولوج النساء والشباب للمؤسسات المنتخبة.
الإصلاح الانتخابي بوصفه ورشًا ملكيًا
يتضح من مضمون الخطاب أن موضوع الانتخابات لم يعد شأنًا إداريًا أو تقنيًا محضًا، بل تحول إلى ورش وطني واسع يشرف عليه الملك بنفسه. فالإصلاح الانتخابي، كما جاء في الخطاب، ليس مجرد ترتيبات قانونية، بل مدخل أساس لإعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات، وضمان تمثيلية حقيقية وفعالة داخل البرلمان. وقد حمّل الخطاب الأحزاب مسؤولية تقديم مرشحين أكفاء ونزهاء، والابتعاد عن منطق المحاباة أو التزكيات المبنية على الولاء الشخصي بدل الاستحقاق والكفاءة.
لحظة مفصلية في المسار الديمقراطي
الخطاب الملكي الأخير لا يمثل فقط توجيهًا سياسيًا ظرفيًا، بل يؤسس لمرحلة جديدة في الحياة السياسية الوطنية، تقوم على الاستباق والوضوح والشفافية. إن إقرار المنظومة الانتخابية قبل نهاية السنة الجارية سيُحرّر النقاش السياسي من ضغط الزمن، ويمنح الأحزاب الفرصة لتطوير برامجها وتشكيل تحالفاتها على أساس وطني صادق، وليس وفق حسابات ظرفية. كما أن استجابة الأحزاب لهذا التحدي سيشكل اختبارًا حقيقيًا لمصداقيتها، وقدرتها على الانخراط في مشروع سياسي جماعي يعلو على المصالح الحزبية الضيقة.
توجيه ملكي يحرّك أسئلة الإصلاح وتخليق السياسة
يرى محللون سياسيون أن دعوة الملك محمد السادس إلى تسقيف زمني لاعتماد المنظومة القانونية المؤطرة للانتخابات، قبل نهاية السنة الجارية، تعكس وعياً استراتيجياً بضرورة خلق شروط الثقة في الاستحقاقات المقبلة، عبر توفير الوقت الكافي لبناء توافقات سياسية حقيقية. هذا التوجه، في نظرهم، لا يهدف فقط إلى ضبط الجدولة، بل يتوخى أيضاً النأي بالقوانين الانتخابية عن الحسابات الحزبية الضيقة التي عادة ما تطغى كلما اقترب موعد التصويت. ويؤكد هؤلاء أن الإصلاح المبكر للمنظومة الانتخابية يساهم في ترسيخ صورة المغرب كدولة اختارت دمقرطة هادئة ومستدامة، عوض الاستمرار في نهج التعديلات الظرفية.
ويشيرون كذلك إلى أن الخطاب الملكي بعث برسالة قوية إلى الفاعلين السياسيين والحكوميين، مفادها أن المرحلة المقبلة لا تحتمل التهاون أو تحويل العملية الانتخابية إلى مجال لتصفية الحسابات الحزبية، خاصة في ظل تصاعد الشبهات حول نزاهة بعض المنتخبين والانتقادات التي طالت استحقاقات سابقة. كما نبه هؤلاء إلى أن هذا التوجيه الملكي لا ينفصل عن السياق العام الموسوم بتوتر سياسي داخل الأغلبية، ومتابعات قضائية تطال عدداً من البرلمانيين، وهو ما يفرض إصلاحاً جذرياً لقواعد اللعبة السياسية.
ومن بين أبرز الإشكاليات التي شددوا على ضرورة معالجتها داخل هذا الورش التشريعي: تراجع تمثيلية الشباب بعد إلغاء اللائحة الوطنية، ضعف تمثيل النساء، والغموض المستمر حول مشاركة مغاربة الخارج. ويرون أن إعادة النظر في هذه الجوانب ينبغي أن تتم بعيداً عن منطق المحاصصة أو المكاسب الظرفية، وبما يعزز المصداقية المؤسساتية ويؤسس لبرلمان قادر على الاستجابة لتطلعات المواطنين في تمثيلية حقيقية وفعالة.
في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن الأحزاب المغربية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة عميقة لخطابها وممارستها، والارتقاء إلى مستوى اللحظة السياسية التي رسم معالمها الخطاب الملكي. فالرهان ليس فقط على انتخابات نزيهة، بل على بناء مشهد سياسي مسؤول، يضمن التمثيلية الفعلية ويؤسس لديمقراطية ناضجة وفعالة. إن الملك وضع الأحزاب أمام مرآة الواقع، وعلى هذه الأخيرة أن تختار: إما الإصلاح الجاد والانخراط الوطني، أو مزيد من التراجع أمام فقدان الثقة الشعبية.