في زقاق ضيق بحي شعبي بمدينة سلا المليونية، يقف محمد، تاجر مواد غذائية منذ ثلاثين عامًا، أمام محله الذي كاد أن يتحول إلى مجرد ذكرى. يقول بمرارة: “كل يوم أفتح المحل وأنا أعلم أنني أخسر، بيم وكازيون وغيرها تبيع بأسعار أقل من سعر شرائي، والزبائن لم يعودوا يثقون إلا في العلامات الكبيرة”. هذه المعاناة ليست حكاية محمد وحده، بل هي واقع مئات الآلاف من التجار الصغار الذين تقف الوزارة المعنية موقف المتفرج بينما ينهار قطاع حيوي يشغل 1.5 مليون مغربي.
حرب غير متكافئة
التجار الصغار، الذين يشكلون 80% من نقاط البيع في المغرب، يواجهون حربًا غير متكافئة.ط، فبينما تتمتع الشركات الكبرى مثل “بيم” و”كازيون” بدعم لوجستي وتمويلي وتخفيضات ضريبية، يترك التجار التقليديون لمصيرهم. تقول فاطمة، صاحبة بقالة في سلا: “المنتجات نفسها التي أبيعها تُعرض في المتاجر الكبرى بأسعار أقل، وكأنهم يريدون إخراجنا من السوق عمدًا”.
الأزمة تفاقمت بعد جائحة كورونا، حيث لجأ الكثيرون إلى الشراء من المتاجر الكبرى هربًا من التكدس، وامتثالا للتدابير الاحترازيو المتعلقة بـ”كوفيد19″، ولكن لم يعودوا. تضيف فاطمة: “حتى زبوني القدامى صاروا يفضلون الذهاب إلى ‘بيم’ لأنهم يصدقون أن أسعارهم دائمًا الأفضل، دون أن يعرفوا أن هذه الشركات تخنقنا لنكون مجرد ذكريات”.
ورغم أن وزارة الصناعة والتجارة تعترف بأهمية القطاع، حيث تمثل المحلات الصغرى 36% من فرص التشغيل، إلا أن سياساتها تبدو غارقة في التناقض، فبينما تُنفق مئات الآلاف من الدراهم على ندوات، لا توجد أي خطة واضحة لمواجهة الاحتكار التدريجي للسوق من قبل الشركات الكبرى.
وفي وقت يعاني فيه التجار الصغار للمواد الغذائية، في سلا على غرار باقي مدن المملكة، من أزمات متلاحقة تدفعهم إلى حافة الإفلاس، بسبب المنافسة الشرسة وغير متكافئة، مع الشبكات التجارية الكبرى وتداعيات الأزمات الاقتصادية، تختار وزارة الصناعة والتجارة إنفاق مئات الآلاف من الدراهم على تنظيم ندوة بمناسبة اليوم الوطني للتاجر، إلا هذا التناقض الصارخ يطرح تساؤلات حول أولويات الوزارة التي يفترض أن تكون حامية لهذه الفئة التي تشكل عصب الاقتصاد المحلي.
ندوة بعشرات الملايين من أجل تجار يعانون
فبينما يصرخ التجار الصغار، الذين يمثلون 80% من نقاط البيع في المغرب ويشغلون ما يقارب 1.5 مليون شخص كما سبق الذكر، تحت وطأة الأزمات، تعلن الوزارة عن صفقة بقيمة 708.920 درهمًا لشركة “Creative Com SARL” لتنظيم ندوة في خطوة تبدو كترفٌ غير مبرر في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
هذه المبالغ الطائلة، التي كان من الممكن توجيهها لدعم التجار أو تخفيف الأعباء عنهم، تذهب بدلاً من ذلك إلى فعالية قد لا تُترجم إلى نتائج ملموسة على الأرض.
وكان النائب البرلماني إدريس السنتيسي، عن الفريق الحركي، قد أثار في وقت سابق معاناة فئة التجار الصغار للمواد الغذائية، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة ظروف اقتصادية متدهورة زادت حدتها عقب جائحة كورونا، وما خلفته من آثار دفعت عددا منهم إلى شفا الإفلاس، فضلا عن المنافسة غير المتكافئة التي تفرضها الشبكات التجارية الكبرى.
وضعٌ دقيق دفع النائب إلى المطالبة بحماية حقيقية لهذه الفئة، التي تعتبر من ركائز الاقتصاد المحلي، والتساؤل حول مدى نجاعة التدابير التي سبق الإعلان عنها لتحسين أوضاعها.
وفي سؤال كتابي موجه إلى وزير الصناعة والتجارة، شدد السنتيسي على أن الحكومة مطالَبة بتحمل مسؤولياتها في مواكبة تجار القرب، مؤكدا أن الخطابات المتفائلة بشأن تنفيذ توصيات سابقة لا تكفي وحدها لضمان التغيير المنشود، داعيا إلى الكشف عن التدابير المزمع اتخاذها لضمان فاعلية ملموسة على أرض الواقع، خاصة في ظل استمرار التحديات الاقتصادية التي تعمق هشاشة هذه الفئة في مواجهة التوسع المتزايد للعلامات التجارية الكبرى.
وفي نهاية السنة الماضية، واجه وزير الصناعة والتجارة رياض مزور انتقادات حادة تحت قبة مجلس المستشارين بسبب ما اعتُبر ضعفًا في تفاعل الحكومة مع الأوضاع المتأزمة التي يعيشها التجار الصغار، أو ما يُعرف بـ”مول الحانوت”، في ظل الزحف المتنامي وغير المقنن للمراكز التجارية الكبرى إلى قلب الأحياء الشعبية.
مسؤولية وزارة مزور .. وسياسة الهرب للأمام
الانتقادات التي قادتها أصوات من الاتحاد المغربي للشغل والحركة الشعبية، حمّلت الحكومة مسؤولية تدهور وضعية هؤلاء التجار الذين يفوق عددهم مليونا ونصف، وغياب حماية قانونية وإجراءات ضريبية تحفيزية ومواكبة حقيقية، مقابل تراجع كبير في عدد المستفيدين من التغطية الصحية ليصل إلى 380 ألفا فقط، بعدما كان يقارب المليون، وهو ما اعتُبر مؤشرا على تدهور غير مسبوق في وضعية هذه الفئة.
وفي رده على المداخلات، دافع مزور عن تدخلات وزارته، مؤكدا أن نسبة انتشار المراكز التجارية الكبرى لا تزال في حدود 20 في المئة، وهو ما اعتبره دليلا على استمرار الأهمية الاجتماعية والاقتصادية للبقالة التقليدية، مشيرا إلى تنزيل حوالي 70 في المئة من توصيات الوزارة في هذا الملف، من ضمن 1500 توصية صادرة.
كما أشار إلى تحركات لتسهيل الولوج إلى القروض وتوسيع مصادر دخل التجار، فضلا عن برامج رقمنة ومواكبة استهدفت مئة شركة ناشئة لتطوير القطاع. ومع ذلك، بدا واضحا أن الخطاب الحكومي لم يُقنع الفرق البرلمانية التي اعتبرت أن الإكراهات لا تزال قائمة، وأن التدخلات المعلنة تظل غير كافية أمام الواقع المتفاقم.