أصدر المؤرخ الفرنسي، برنار لوغان، مؤلفًا جديدًا بعنوان “تاريخ الجزائر: من البدايات إلى اليوم” (Histoire des Algéries, des origines à nos jours)، يقدم فيه تحليلًا شاملاً لتاريخ الجزائر. يعرض لوغان في كتابه رؤية جديدة حول تاريخ الجزائر قبل وبعد الاستعمار الفرنسي، مشيرًا إلى أن فرنسا هي التي شكلت الجزائر كما نعرفها اليوم من خلال التوحيد الجغرافي والسياسي للمنطقة.
الجزائر قبل الاستعمار: تنوع مكونات دون وحدة
في بداية كتابه، يشير لوغان إلى أن الجزائر لم تكن موجودة ككيان موحد قبل الغزو الفرنسي عام 1830. ويؤكد أن ما يُعرف اليوم بالجزائر كان “عالمًا متعدد المكونات”، حيث كان التنوع الجغرافي والثقافي يمنع تشكل وحدة وطنية حقيقية على مدار العصور. ويشرح أن هذا التنوع تفاقم بسبب الموقع الجغرافي “الوسيط” للمنطقة، حيث كانت الأقاليم الجزائرية تتوزع بين قوتين إقليميتين: المغرب في الغرب، وتونس في الشرق. هذا التأثير المزدوج من الجوار جعل العديد من المراكز التاريخية مثل تلمسان وبجاية لا تتمتع بفترات طويلة من الاستقلال الفعلي.
تنوع الجزائر: من الحضارات القديمة إلى الفتح الإسلامي
يتتبع لوغان في مؤلفه تطور الجزائر عبر العصور، مشيرًا إلى أن هذه الأرض تأثرت بحضارات مختلفة، بدءًا من الحضارة القرطاجية والرومانية، مرورًا بالوندالية والبيزنطية. ثم، يشير إلى التحول الكبير الذي شهدته الجزائر مع الفتح الإسلامي، وصولًا إلى “الاستعمار العثماني”.
ورغم هذا التنوع الحضاري، يؤكد لوغان أن التوحيد الفعلي للمنطقة لم يتم إلا بعد الاستعمار الفرنسي، الذي رسم الحدود الحالية للجزائر وفرض عليها وحدة سياسية كانت غائبة قبل ذلك.
فرنسا وتوحيد الجزائر: حدود جديدة وهوية موحدة
يؤكد المؤرخ الفرنسي أن تاريخ الجزائر، كما هو مدوّن في السجلات الرسمية بعد الاستقلال في 1962، يتجاهل الحقيقة الواضحة بأن فرنسا هي التي قامت بتوحيد الجزائر عبر اقتطاع أراضٍ من دول الجوار. فبالإضافة إلى أجزاء من المغرب، ضمت فرنسا الأراضي الجنوبية التي تشمل الصحراء الوسطى.
وبالتالي، يرى لوغان أن التاريخ الرسمي الجزائري يعيد تشكيل الماضي وفقًا لرؤية أيديولوجية تحاول فرض وحدة سياسية لم تكن موجودة سابقًا.
ثلاثة افتراضات رئيسية في الخطاب الرسمي الجزائري
يركز لوغان على ما يراه ثلاث افتراضات رئيسية في الخطاب الرسمي الجزائري حول الهوية والتاريخ. أولاً، يُنظر إلى العروبة باعتبارها المكون الأساسي للهوية الجزائرية، بينما يتم تهميش العنصر الأمازيغي.
وهذا، حسب لوغان، يقطع جذور الهوية الجزائرية عن تنوعاتها الأصلية. ثانيًا، يروج الخطاب الرسمي لفكرة وجود “أمة جزائرية” قبل الاستعمار الفرنسي، وهي فكرة لا تدعمها الحقائق التاريخية. ثالثًا، يزعم الخطاب أن الكفاح من أجل الاستقلال كان حركة شعبية موحدة، رغم أن الحقائق تظهر أن الكثير من الجزائريين خدموا في الجيش الفرنسي أثناء حرب الاستقلال.
في ختام كتابه، يدعو لوغان إلى إعادة كتابة التاريخ الجزائري بشكل علمي بعيد عن الإيديولوجيا. مستشهدًا بكلام المؤرخ الجزائري محمد حربي: “الجزائر عالقة بين الجحيم والفردوس”، يؤكد لوغان أن تاريخ الجزائر يجب أن يعكس التعددية المعقدة التي شكلت هذا الكيان منذ أن أطلق عليه الفرنسيون اسم “الجزائر” في عام 1839.
في المقابل، وفي مقال رأي اخر للمؤرخ الفرنسي، يقول الأخير، كان المغرب يزود العالم الإفريقي بمنتجات الصناعة التقليدية، مثل المجوهرات والأسلحة والأقمشة، بالإضافة إلى سلع الاستعمال اليومي مثل أواني المطبخ، والفخار، والأقمشة، والسكاكين، والمرايا وغيرها. كما لعبت المنتجات الزراعية مثل القمح والفواكه المجففة والتمور دورا هاما في هذا التبادل التجاري، دون أن ننسى الخيول التي كانت أيضا جزءا من هذه المبادلات.
وفي الوقت الذي تتجرأ فيه الجزائر، الدولة التي نشأت عام 1962، على الطعن في الحقوق التاريخية للمغرب على أقاليمه الصحراوية، فإنه من المفيد تذكير قادتها بأن المغرب كان يسيطر على طرق التجارة العابرة للصحراء في القرن العاشر الميلادي، أي قبل نحو ألف عام من ظهور الجزائر ككيان سياسي. وهذه حقيقة مثبتة تاريخيًا، إذ إن الجغرافي ابن حوقل وثّق هذه الطرق بنفسه، حسب المؤرخ.
كان الانطلاق من جنوب المغرب، وتحديدا من سجلماسة في تافيلالت، المدينة التي كانت على اتصال مباشر بمنطقة تاگانت على طريق وادي نهر السنغال. وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر، مع نشوء إمبراطورية مالي، ظهرت طريق تجارية جديدة، أيضا من سجلماسة، ولكن هذه المرة باتجاه الصحراء الوسطى نحو ممالح تغازة وواحة ولاتة. ومع أواخر القرن الرابع عشر، بدأت مدينة تمبكتو بالنمو، وسافر إليها الرحالة المغربي ابن بطوطة، حيث وصف الطرق التي كانت تؤدي إليها، والتي كانت تبدأ دائما من سجلماسة.
كانت سجلماسة بمثابة الميناء الشمالي للصحراء، ونقطة العبور الأساسية للقوافل المتجهة جنوبا أو العائدة منه. وكانت بمثابة حلقة الوصل بين المغرب وإفريقيا السوداء، حيث كانت تعج بالتجار القادمين من فاس ومدن مغربية ساحلية وداخلية، إضافة إلى تلمسان، التي ظلت مدينة مغربية لعدة قرون. وكانت سجلماسة تتمتع بموقع استراتيجي، إذ تبعد ستة أيام مشيا عن ورزازات، وتسعة إلى أحد عشر يوما عن فاس، وعشرين يوما عن طنجة، واثني عشر يوما عن تندوف.
إضافة إلى موقعها المتميز، استفادت سجلماسة من وفرة المياه التي سمحت بزراعة الخضروات والفواكه والحبوب الضرورية للقوافل، مما جعلها نقطة تموين أساسية للقوافل القادمة من الشمال والمتجهة إلى الصحراء، حيث تحتاج هذه القوافل إلى زاد يكفي لشهرين من السفر عبر 1500 إلى 1800 كيلومتر من الصحراء القاحلة.
في مقال هام نُشر عام 1969 بعنوان « سجلماسة: المدينة وعلاقاتها التجارية في القرن الحادي عشر وفقا للبكري ” (Hesperis-Tamuda, vol X, fasc. 1-2, 1969)، قام الباحث جان ميشيل ليسارد بتعريف دور سجلماسة بوضوح: « كانت المدينة الفيلالية نقطة تجمع للقوافل القادمة من الساحل المتوسطي، ومن الساحل الإفريقي، ومن التل والسهول الشمالية للمغرب. كانت تستقبل البضائع، وتعيد توزيعها، وتزود القوافل بحمولتها العائدة التي يتم الحصول عليها من محيط المدينة أو من أعماق الصحراء. لقد كانت سجلماسة عنصرا محركا للتجارة الإقليمية والدولية على حد سواء. » (Lessard, 1969: 15)
كانت القوافل القادمة من الجنوب تحمل الذهب المستخرج من بامبوك، بالقرب من نهر السنغال، ومن بوراي على نهر النيجر، ومن منطقة اللوبي على نهر فولتا. ولم يكن الذهب وحده المنتج الرئيسي، إذ كانت تجارة الصحراء تشمل أيضا العنبر الرمادي، والصمغ العربي، وجلود المها التي كانت تُستخدم في صناعة الدروع، وجلود الفهود والثعالب الصحراوية، إضافة إلى تجارة الرقيق.
وبينما كان المغرب يصدر إلى إفريقيا السوداء منتجاته الحرفية مثل المجوهرات، والأسلحة، والأقمشة، والأواني المنزلية، والفخار، والسكاكين، والمرايا، والخيول، فإن تدفق هذه التجارة تعرض لهزة عنيفة في القرن الخامس عشر مع وصول البرتغاليين الذين استقروا على الساحل الغربي لإفريقيا.
أدى هذا التدخل البرتغالي إلى تحويل مسار التجارة من محور « إفريقيا السوداء – المغرب » إلى محور « إفريقيا السوداء القارية – إفريقيا السوداء الساحلية ». ونتيجة لذلك، تراجع الإنتاج الحرفي المغربي الذي كان يزود التجارة العابرة للصحراء، حيث بات الأفارقة يحصلون على المنتجات المصنعة في البرتغال عبر السفن البرتغالية، مما تسبب في أزمة اقتصادية في المناطق الجنوبية للمغرب، لا سيما في تافيلالت.