أونبارك: تأجيل مناقشة مشروع قانون " المنظومة التربوية" سيأخذ من زمن الإصلاح الكثير

بداية ما هي قراءتكم لما جاءت به الرؤيا الاستراتيجية ؟

تعد الرؤية الإستراتيجية، ورشا إصلاحيا مهما، تنم عن التجربة المهمة في ميدان التربية والتكوين للمشتغلين عليها، وتعبر في الآن ذاته عن المعرفة الدقيقة بالاختلالات التي ظلت تعتري منظومتنا التربوية منذ مدة، سواء من حيث ربط المدرسة ببناء شخصية المتعلم بدل شحنه بمعارف لا تساهم البتة في ربح رهان تشييد الذات والمجتمع، أو من حيث الانفتاح على قضايا راهنية لم يعد زمن الإصلاح يسمح بتجاوزها، وإلا سيظل الوضع على ما هو عليه ونُفوّت على أنفسنا مرة أخرى جرأة التصريح بمكامن الضعف والقوة في بناء منظومة تربوية أضحت أولوية من أولياتنا الوطنية. كما أن الرؤية الإستراتيجية، مهما كانت ثغراتها، تحمل استشرافا لا يمكننا تجاهله، وهو بناء مدرسة مغربية قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية من أجل إعداد مواطن المستقبل، دون أن ننسى توجه "رافعاتها" نحو الرغبة في التأسيس لاستراتيجيات مخالفة في التدبيرين التربوي والإداري وفي مهننة مهام التربية والتكوين، وذلك من خلال مشاريع منسجمة ومتكاملة - على الأقل نظريا- وتصب جميعها في محاولة ربح الرهانات الوطنية والدولية.

- هل ترون أن مشروع قانون الاطار الخاص بمنظومة التربية والتكوين يستجيب لفلسفة الرؤيا الاستراتيجية ؟

يندرج مشروع القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي ضمن القوانين الساعية إلى تفعيل الرؤية الإستراتيجية 2015/2030، هكذا تبدو الأمور منطقية ومنسجمة من ناحية الأجرأة، لذا، لابد أن ينسجم القانون المشار إليه والمبادئ الكبرى للرؤية. لكن الوقوف على مقتضيات مشروع القانون " الجديد" يجعلنا نتأكد فعلا من إحدى التحديات الكبرى التي ما فتئنا نثيرها كلما تصفحنا الوثيقة الخاصة بالرؤية الإستراتيجية: مشاريع طموحة، مواكبة جيدة في نظرنا لواقع المدرسة المغربية، صدق في محاولة تجاوز المشكلات المطروحة ومن كافة الجوانب المتعلقة بالمنظومة( التعلمات، لغة/ لغات التدريس، المهننة، الحكامة التربوية، الموارد البشرية،...)، لكن تفعيلها سيسطدم لا محالة مع إكراهات وتحديات أخرى تكاد في مجملها تندرج ضمن مجالات وقطاعات وصراعات لا تمت، أحيانا، للتربية والتكوين بصلة. لذا فمشروع قانون الإطار ، الذي لابد بدوره أن يكون إجرائيا لتسهيل سيرورة التفعيل لابد أن يكون و"اضحا" في الكثير من "القضايا" التي ظلت "فرصة لتصفيات حسابات سياسية أو مدخلا لتقزيم المنظومة التربوية في مردورديتها المالية أو علاقات مخرجاتها بـ"سوق الشغل" بمعناه الضيق، والذي لا يراعي بناء الذات بكل أبعادها، ويجنب مواطن الغد حمل دبلومات وشواهد بلا كفاءات.

كيف تنظرون إلى النقط التي أثارت كثيرا من النقاش على المستوى التشريعي، خاصة ما يتعلق بالهندسة اللغوية ومجانية التعليم ؟

لاشك أن "اللغة المرنة" التي كُتب بها المشروع ظلت تفتح أفاقا لنوع من "اللاوضوح" وصعوبة الحسم في الكثير من الإشكالات التي كانت ولازالت تثير الكثير من النقاش لدى كل الفاعلين والمهتمين على حد سواء. دعونا نقف مثلا عند:
- لغة/ لغات التدريس: فعبر مواد مشروع القانون المخصصة لهذا الرهان التربوي والعلمي( المادتان 28/29 من الباب الخامس)، ظلت الوثيقة تتأرجح بين اللغتين الوطنيتين واللغات الأجنبية من حيث الانفتاح والأولوية، مما سيفتح فعلا افاقا لتأويلات عدة، وصعوبة في الحسم، وهذا فعلا ما تبين من خلال عدم تمكن لجنة التشريع الموكول إليها هذا الشأن تحت قبة البرلمان من الحسم فيه ضمن جلساتها(أخرها كانت يوم الثلاثاء 12 فبراير 2019)ـ وتم تأجيل النقاش فيها إلى أجل قد يطول، خصوصا ونحن على أبواب ختم الدورة الخريفية في انتظار جلسات الدورة الربيعية)، وهذا طبعا يأخذ من زمن الإصلاح الكثير من الوقت ويؤجل جرأة الحسم إلى حين.
- الموارد البشرية ومهننتها: في سياق المقارنة والتفعيل بين الرؤية الإسترتيجية ومشروع القانون الإطار ومجريات الواقع، تظهر تحديات كبيرة، بين تقرير استشرافي أضحى بمثابة خارطة طريق إلى حدود 2030، وبين مشروع يبتغي أن يكون إجرائيا وواقع محفوف بإكراه التدبير اليومي، نجد أن التقرير كان طموحا من حيث إعادة بناء المهننة الإدارية والتربوية والتأطيرية على مقومات مخالفة، قوامها: التمكين، الحكامة، التحفيز والمهننة المستمرة، بينما المشروع يفتح الأفق لاحتمالات ممكنة- ربما يتركها لما قد نسميه" بـ "حسب الظروف". و هذا يثبت فعلا استحضار المشروع للإكراهات الكامنة في التوظيفات المباشرة والخصاص الكمي في الموارد البشرية وإكراهات أخرى قد تؤثر سلبا على تحقيق المشاريع الطموحة في هذا الإطار.
- مجانية التعليم: في المادتين48 وماتلها من الباب الثامن، أثر المشروع الإطار إحدى إشكالية التمويل، وكان مبدأ الانفتاح على الشركاء مدخلا مهما، لكن لائحة هؤلاء ستعرف إضافة "الأسر الميسورة" و"إقرار رسوم التسجيل تدريجيا بالتعليم العالي ثم التعليم الثانوي التأهيلي"، وأيضا الجماعات الترابية، مما يطرح تحديات لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار ، بدأ بمعنى "الأسر الميسورة" وكيف سيحدد المشرع هذا التصنيف، قدرات الجماعات الترابية ومدى توفرها على إمكانات الانخراط في تفعيل مشاريع المنظومة التربوية في ظل تدبير ترابي محلي يحتاج إلى عمل أكثر من أجل تصحيح وضعه الحالي.
هذه المداخل وغيرها، تجعل مشروع قانون الإطار فعلا أمام معيقات بعضها ذاتي، أي مرتبط بالمنظومة التربوية نفسها، وبعضها مرتبط بالوضعية الوطنية والدولية وما تطرحها من إشكالات لابد من التعامل معها بحكمة وتبصر.

- ماهو تصوركم للنموذج الذي من شأنه إدماج المسالك المهنية في التعليم المدرسي وما هو موقعه في الاستراتيجية وأيضا من خلال مشروع قانون الإطار ؟
في رأيي طبعا، لا نجد اختلافا من حيث تصور كل من الرؤية الإستراتيجة ومشروع القانون الإطار بشأن إدماج التكوين المهني ضمن المكونات المساهمة في بناء مواطن الغد، رغم اختلاف أساليب التداول وقاموس التعبير عن ذلك، فالتجارب السابقة أبانت عن ضعفها جرأ الفصل بين مدخلي "التعليم العام" و"التعليم المهني" ، وهذا ينسجم مع مبدأ الفارقية في التربية، إذ أن ذكاءات وميولات المتعلمين تتعدد وقدراتهم تتباين، وطموحاتهم ومساراتهم الحياتية لن تكون بالضرورة متشابهة. لكن تفعيل هذا التزاوج بين البعدين المهني والنظري طرح إكراهات واقعية تعددت مبرراتها وأسبابها حسب الفاعلين، ويمكننا إجمالها في:
- التسرع في تفعيل الدمج بينهما قبل إعداد أرضية ملائمة لذلك(البنية التحتية، هندسة التخصصات وتكويناتها، القوانين المنظمة للتدبير الإداري والتربوي، الموارد البشرية،...)،
- هيمنة تصور "السوق الشغل" على التفعيل مما جعل البعد التربوي مغيبا مما أدى إلى انعدام السلاسة في التفعيل.
- استمرارية النظرية الدونية إلى "التكوين المهني" في تمثلات الأسر، و سيادة مقولات "الضعفاء والفاشلون هم من يلتحق بالتكوين المهني"،
مثل هذه الإكراهات قد تجعل الطموح الساكن بين طيات الرؤية ومشاريع القوانين والمذكرات تؤجل الإدماج الجيد إلى حين. لاسيما إذا لم تباشر الجهات المسؤولة الشروع في حل مشكلات أخرى مثل:
- إعادة النظر في توجيه التلاميذ نحو المسالك المهنية "تلميذ يصنف مثلا أدبيا في الثالثة إعدادي، يلتحق بالتكوين المهني ليجد أمامه الفيزياء والرياضيات في تخصص من التخصصات المهنية".
* - وضع ترسانة قانونية توضح العلاقة بين مراكز التكوين المهني ومؤسسات الثانوي التأهيلي لأنه لا يصح وجود إدارتين منفصلتين من حيث التنظيم لمتعلم واحد(لما لا يتم إدماج المواد المهنية داخل المؤسسات التعليمية وتوفير بينة تحتية ملائمة تجنب المتعلم التنقل أحيانا لمسافات بعيدة بين التعليم النظري والمهني).
ومنطلق هذا التزاوج والانسجام لن يتم بدون العمل على مأسسة التكامل بين البعدين التربوي والتعليمي والمهني والإداري لنتمكن فعلا من الحفاظ على هذا الدمج بين قطاعي التكوين المهني والتربية الوطنية والبحث العلمي والتعليم العالي في تدبير وزاري واحد وموحد.

ماهي انتظاراتكم من مشروع القانون على مستوى الاصلاح البيداغوجي؟
يبدو أننا اليوم في دينامية لا يستهان بها وأكثر من أي وقت مضى، ويبدو أيضا أننا أحدثنا اليوم تراكما بما فيه الكفاية لنتجاوز مرحلة تشخيص الوضع التعليمي ببلدنا، حان الأوان لننتقل إلى مرحلة تفعيل المشاريع المدرجة ضمن لائحة الإصلاح، وما الرؤية الإستراتيجة إلا ضمن هذا السياق. وأشكركم على سؤالكم المتعلق بالشق البيداغوجي، لأنه حان الأوان لنعلن أن المنظومة التربوية لابد أن تكون فعلا تربويا، وأن تُعالج "بعين" تربوية. ولا ينبغي أن يفهم قولي بإقصاء التدبير الإداري والمالي والسياسي والإقتصادي وغيرها من الرؤى والزوايا التي نحتاجها دوما، لكنها لابد أن تسير في سياق البعد التربوي، بمعنى أن تكون جميعها في خدمة المتعلم داخل الفصل وخارجه وليس العكس. لذا، فالرهان البيداغوجي الذي نطمح إليه لابد أن يخلصنا من المدرسة التي:
- تشحن المتعلم بمعارف ينساها بمجرد اجتياز الإمتحانات الإشهادية.
- تلك التي تضع النقطة والنجاح المرهون بالحفظ معيارا للتفوق.
- تلك التي تنفصل عن واقعها المحلي والوطني والدولي، وتموقع المتعلم(ة) في مجال منحصر ينتظر لحظة الانفلات منه.
- تلك التي تختزل التعلمات في مصدر واحد، مدرس واحد، معرفة واحدة.
وهذه الطموحات يعيها فعلا كل المتدخلين والفاعلين في صياغة الرؤية الإستراتيجية وفي وضع مشروع القانون الإطار الذي نتمنى أن يكون ملبيا لطموحات الجميع، لاسيما إذا ما وضعنا نصب أعينا دائما أن المنظومة التربوية تعمل على تكوين وبناء الإنسان وليست البتة معملا ننتظر منه عددا أكبر من الوحدات الإنتاجية.