الدفع بعدم دستوية قانون.. بين ترصيد الحماية الدستورية للحقوق ورهان التنزيل السليم

بمصادقة مجلس النواب على مشروع قانون تنظيمي رقم 86.15 يتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون، يكون المغرب قد خطا خطوة مهمة نحو ترسيخ الضمانات الدستورية والتشريعية لحماية الحقوق والحريات، وتعزيز مسالك الولوج الفردي للقضاء الدستوري.

ويشكل مشروع القانون هذا، الذي يعتبر الأول من نوعه بالمملكة الذي يفسح المجال أمام المواطنين للدفع بعدم دستورية القوانين أمام المحاكم تطبيقا لأحكام الفصل 133 من الدستور لسنة 2011، نقلة نوعية لآلية المراقبة الاختيارية القبلية لدستورية القوانين، من شأن تطبيقها أن يوفر بيئة حاضنة لترصيد الحماية الدستورية لحقوق المواطنات والمواطنين وحرياتهم.

ويمنح هذا النص التنظيمي، الذي أثارت صيغته الأولى نقاشات قانونية ودستورية بعدما قضت المحكمة الدستورية في سنة 2018 بعدم دستورية عدد من مواده، حقا دستوريا جديدا بتخويل المحكمة الدستورية البت في الدفع بعدم دستورية قانون يثار من قبل أحد الأطراف، أثناء النظر في قضية في المحكمة، والذي يكون من شأنه المساس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور.

ويستمد النص، الذي سيحال مرة أخرى على المحكمة الدستورية قبل نشره في الجريدة الرسمية للنظر في مدى موافقته لأحكام الدستور، ومن ثم العمل به في أجل سنة، أهميته من طبيعة الرهانات والتطلعات التي تروم المملكة تحقيقها في إطار نموذجها والديمقراطي والتي تستدعي صياغة منظومة تشريعية متكاملة الجوانب توطد المكتسبات التي راكمها المغرب في مجال الحقوق والحريات.

وإذا كانت فرق الأغلبية والمعارضة بمجلس النواب قد أجمعت، خلال مناقشتها لمشروع القانون التنظيمي، على أهمية الصيغة الجديدة لهذا النص التي أضحت أكثر دقة ووضوحا وتتضمن جملة من المقتضيات ذات الأهمية القصوى، واعتبرت أنه لحظة متميزة في ترسيخ الإصلاحات الجوهرية ومسار البناء الديمقراطي الذي أتى به دستور 2011، تكريسا لدولة الحق والقانون، فإن تحقيق التوازن بين صيانة الحقوق والحريات، والنجاعة القضائية يظل رهانا مطروحا أمام التنزيل السليم لمقتضيات هذه الآلية الدستورية، ويسائل وعي المواطن بمدى حقوقه وواجباته.

وفي هذا الإطار، سجل البرلمانيون ضرورة مراعاة السقف القانوني لتفسير مفهوم الدفع بعدم دستورية القوانين، تفاديا لأي تأويل غير سليم لمقتضيات الفصل 133 من الدستور، قد يطرح إشكاليات تتعلق بكثرة الملفات المحالة على المحكمة الدستورية، مما قد يترتب عنه، في حال تعسف بعض المتقاضين، تراكم الدفوعات بعدم الدستورية، لاسيما في ظل التركيبة المحدودة لأعضاء المحكمة.

وكان وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، قد أكد لدى عرض هذا النص للمصادقة أمام مجلس النواب، أنه ثمرة جهود بذلت وفق مقاربة تشاركية تميزت بإشراك الفاعلين في الحقل القانوني والقضائي والممارسين والمختصين والخبراء في مجال القضاء الدستوري والقضائي الإداري داخل الوطن وخارجه.

وشدد على أن الهدف من هذه المقاربة التشاركية يكمن في وضع صيغة لمشروع قانون تنظيمي "يوفر التوازن بين صيانة الحقوق والحريات التي يضمنها دستور المملكة عن طريق آلية الدفع بعدم دستورية قانون، وتحقيق النجاعة القضائية من خلال الحد من الدفوع الكيدية والتقاضي بسوء نية بما لا يعرقل السير العادي لعدالة فعالة وناجعة".

وبخصوص الرهان المرتبط بتزيل النص طبقا لمرامي المشر ع، يقول عبد المنعم لزعر، أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط ،إن الأمر يستلزم استثمارا في الوعي و الثقافة الحقوقيين من أجل تطبيق سليم.

وأبرز الأستاذ الجامعي في حديث صحفي، أن "آلية الدفع قد تساهم في فتح نوافذ الفرص للحقوقيين وللأطراف المتضررة من مقتضى قانوني غير دستوري لإثارة الدفع بعدم الدستورية"، مسجلا أنه مالم يواكب هذا القانون استثمار في الوعي والثقافة الحقوقيين والدستوريين، "فيمكن أن يفرز احتمالين، يتعلق الأول بحدوث إهمال تلقائي واختياري لهذه المقتضيات الجديدة بسبب غياب الوعي الدستوري، أما الاحتمال الثاني فيهم حدوث "انفجار" في إثارة الدفع بعدم الدستورية وانحباس في جدية استعمال هذه الآلية القانونية".

ويرى الأستاذ الجامعي أن "دولة الحق والقانون تتأسس على العديد من القواعد والمبادئ أهمها مراقبة دستورية القوانين سواء كانت قبلية أو بعدية، لكن الأهم من كل ذلك هو وجود ثقافة دستورية وحقوقية على مستوى الدولة والمجتمع والتي بدونها، فإن القوانين تقوم بإعادة إنتاج نفس الواقع".

وفي استقرائه لمضامين هذا النص القانوني، استعرض السيد لزعر ثلاث ملاحظات أساسية تتمثل الأولى في وصف المراقبة بواسطة الدفع بعدم الدستورية التي يؤسس لها هذا المشروع بأنها "مراقبة تقديرية"، معتبرا أنها ليست مراقبة قضائية وإن كان تحريك هذا الدفع يتم على هامش قضية معروضة في المحاكم، وتخضع في بعض جزئياتها لبعض القواعد والمساطر التي تحرك عمل هذه المحاكم، لأن البت النهائي في حيثيات الدفع بعدم الدستورية يتم من طرف المحكمة الدستورية.

وتابع أنها ليست ، أيضا، مراقبة سياسية وإن كانت المحكمة الدستورية في تشكلها تخضع لبعض الحسابات السياسية في تعيين بعض أعضائها (الفئة المحسوبة على مجلس النواب ومجلس المستشارين)،معللا ذلك بكون منشأ الدفع بعدم الدستورية يرتبط بوجود تقدير فقهي أو حقوقي بوجود مقتضى قانوني له صلة بقضية معروضة أمام المحاكم مخالف للدستور خاصة في مجال الحقوق والحريات، ومنتهى الدفع كذلك يرتبط بقرار تصدره المحكمة الدستورية وهو قرار تقديري بوجود مخالفة دستورية من عدمها".

ووصف الأكادبمي الدفع بعدم الدستورية، في ملاحظة ثانية، بأنها "مراقبة دستورية تكميلية وليست مراقبة موازية لمراقبة المحكمة الدستورية لأنها لا تمنح أي سلطة للمحاكم للنظر في مدى جدية الدفع ومراقبة مدى دستورية المقتضى القانوني المثار بسبب الدفع"، مشيرا إلى أن المحاكم وفق هذه المراقبة تعد عبارة عن ساحات لإثارة الدفع دون أي سلطة لمعالجته والتقرير فيه بإستثناء الجانب المسطري من الدفع، وبالتالي فإن المراقبة تبقى اختصاص حصري للمحكمة الدستورية.

كما أن آلية الدفع بعدم دستورية قانون، حسب الباحث الجامعي، لا تعد "مراقبة مستقلة تتكلف بها هيئة مستقلة عن المحكمة الدستورية، فالقاضي الذي ينظر في المراقبة القبلية للقوانين المحالة عليه، سواء كانت بصفة اختيارية (القوانين العادية الفصل 132 من الدستور) أو إجبارية (حالة القوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية لمجلسى البرلمان) هو ذات القاضي الدستوري الذي سينظر في المراقبة البعدية للقوانين عبر آلية الدفع بعدم الدستورية، مع وجود اختلاف طبعا في مسطرة البت في كل مراقبة".

أما الملاحظة الثالثة التي ساقها الأستاذ لزعر، فيعتبر بموجبها أن آلية الدفع هي "مراقبة استدراكية محدودة ومعقلنة، وليست مراقبة مفتوحة. وهي مراقبة تتم على أساس دفع جدي بعدم دستورية مقتضى قضائي وتقدير جدية هذا الدفع يعود للقاضي الدستوري"، مسجلا أن الامر يتعلق كذلك، بمراقبة مقيدة لا تنصب إلا على المقتضيات والقوانين التي لم يسبق للقاضي الدستوري النظر في دستوريتها، لذلك فإن "الصيغ المعيارية الواردة في القوانين التنظيمية على سبيل المثال لا يخضع تطبيقها القضائي لمسطرة الدفع بعدم الدستورية".

وخلص المتحدث إلى القول، إن مشروع القانون التنظيمي غير منفصل عن الفلسفة العامة والمرجعية التي تتأسس عليها مراقبة دستورية القوانين بالمغرب، حيث تمت، عبر آلية الدفع، إضافة اختصاص للمحكمة الدستورية قد يشكل عبئا إضافيا على المحكمة خاصة في ما يتعلق بالدفوعات المتعلقة بالمنازعات الانتخابية.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.