لماذا حاولت الحكومة التسرع في تقنين استعمال شبكات التواصل الاجتماعي ؟

الدكتور والمحامي محمد حنين

إذا كانت الحاجة الى التقنين تفرضها عادة الاستجابة لضرورة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ملحة ، فإن النسخة المسربة من مشروع القانون بشأن استعمال شبكات التواصل الاجتماعي و ما تضمنته من مقتضيات تجعل كل من اطلع عليها يتساءل حول مدى حاجة بلادنا الى هذا القانون الجديد و هل هناك استعجال لتجريم الافعال التي يرمي الى تقنينها ؟

تسرع الحكومة رغم انعدام حالة الاستعجال ...

لما أرادت الحكومة لمشروع القانون 22 . 20 أن يكون زجريا من خلال تجريم بعض الافعال و تحديد عقوباتها والحال أنها لازالت تشتغل على مشروع القانون الجنائي ، فإنه لا يفهم سبب تسرع الحكومة في إعداد مشروع قانون زجري مستقل و هي لم تنتهي بعد من مشروع القانون الجنائي باعتباره القانون الزجري العام و بإمكانها تضمين اقتراحاتها بخصوص الافعال التي ترغب في تجريمها في هذا المشروع ، فهل كانت أمام حالة استعجال أدت الى التسرع المذكور ؟ أم أنها حاولت استغلال الظرفية الاستثنائية التي تعيشها البلاد لتمرير مشروعها الجديد بسرعة ؟ ففي الواقع أنه أمام انتفاء الاستعجال تبقى فرضية الرغبة في تمريره كما استنتج ذلك أغلبية المتتبعين هي مبرر هذا التسرع ، وبذلك تكون قد أخطأت التقدير لأن الأمر يتعلق بقانون له حساسية خاصة و لا يمكن تمريره بسهولة بدليل عدم قدرة الحكومة على ضمان سرية مداولاتها حول نسخة المشروع الاولية إذ سرعان ما تم تسريبها و تسريب آراء و ملاحظات بعض الوزراء حوله مما ساهم في اتساع دائرة النقاش و تكوين شبه إجماع على رفضه ، بل حتى لو حرصت الحكومة على السرية و صادقت على الصيغة النهائية فإنه من الصعب عليها ضمان مناقشته و المصادقة عليه في البرلمان بسرعة بسبب تعقد المسطرة التشريعية سيما بالنسبة لمشاريع القوانين التي تستأثر باهتمام متزايد للرأي العام ، فمشروع القانون الجنائي لازال يراوح مكانه بالبرلمان منذ 2015 والقانون رقم 145 . 13 المتعلق بمزاولة مهن الترويض و التأهيل و إعادة التأهيل الوظيفي لم تتم المصادقة عليه إلا بعد 6 سنوات من الأخذ و الرد ، كما أن مشروع القانون المتعلق بتنظيم مهنة وكيل الاعمال لازال يراوح مكانه بلجنة العدل و التشريع بمجلس النواب منذ 2013 بعد الضجة التي أثارها من طرف المهنيين .

مبررات التخوف من التضييق على حرية التعبير...

بالرجوع الى مشروع القانون 20. 22 يتبين أنه يتضمن 25 مادة منها فقط 13 مادة تتعلق بتدابير زجرية لكونها ترمي الى تجريم بعض الأفعال التي اعتبرتها تمس بالأمن و النظام العام الاقتصادي و كذا تجريم نشر الاخبار الزائفة و الجرائم الماسة بالشرف و الاعتبار الشخصي و الجرائم الواقعة على القاصرين.

ونتيجة لهذا التجريم فإن هذا المشروع أثار جدلا واسعا داخل مختلف الأوساط الحقوقية و السياسية بدافع الخوف من تقييد حرية التعبير بدليل أنه أصبح يوصف بقانون تكميم الأفواه. و ذلك بالرغم من أن المادة الثانية منه تؤكد على أن حرية التواصل الرقمي عبر شبكات التواصل الاجتماعي و شبكات البث المفتوح و باقي الشبكات المماثلة مضمونة ، و أن المادة الرابعة تنص صراحة على استثناء منصات الانترنت التي تقدم محتوى صحفي أو تحريري من نطاق تطبيق هذا القانون و كذا استثناء الأعمال الصحفية كونها تظل خاضعة لقانون الصحافة و النشر. و بالفعل فإن عدة عوامل تظافرت فيما بينها للتشكيك في الخلفية الحقيقية لهذا المشروع ، سواء فيما يتعلق بالأفعال موضوع التجريم أو بمنهجية إعداده أو تسريبه الى الرأي العام قبل حسم الحكومة في صيغته النهائية فضلا عن تسببه في تصدع التضامن الحكومي بكيفية غير مسبوقة.

تداعيات تجريم الدعوة الى مقاطعة المنتوجات...

من الملاحظ أن تجريم المشروع لما أسماه " الدعوة الى مقاطعة بعض المنتوجات أو البضائع (م 14 )" جعلت النقاش حول هذا المشروع يكاد ينحصر في هذه المادة اعتبارا لاستمرار الوقع الايجابي لحملة المقاطعة السابقة على وجدان مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي و هو ما غاب عن الجهة المكلفة بصياغة المشروع ، مما أثار ردة فعل عارمة لمواجهة ما اعتبره هؤلاء المستعملون انتقاما تشريعيا ، و أصبحنا أمام صراع مفتعل بعيد عن الصراع الفكري و النقاش القانوني الرصين الرامي الى تحصين الأمن الاقتصادي للبلاد ، لذلك فإن الجهة المكلفة بصياغة المشروع و هي تختار عبارة " الدعوة الى المقاطعة " تكون قد استعملت عبارة غير دقيقة قانونيا ، و أن هذا الاستعمال قد تم دون تقدير حساسية هذه العبارة بالنسبة للرأي العام ، مما يدل على انعدام التبصر و الحكمة التي ينبغي على المشرع التحلي بها فضلا عن عدم الاستئناس بالقانون المقارن ، فعلى سبيل المثال نفس الفعل يجرم في أغلب دول الاتحاد الاوربي بمقتضى القانون الجنائي أو قانون المنافسة و الاحتكار منذ سنوات و لكن بصيغة أخرى أكثر دقة و مهارة قانونية ، من بين ذلك القانون الجنائي بفرنسا الذي يجرم في مادته  225 – 2 " عدم التمييز المرتبط بالتحريض على إعاقة الممارسة العادية للنشاط الاقتصادي" و يحدد لذلك عقوبة حبسية مدتها 3 سنوات و غرامة مالية مبلغها 45 ألف أورو، و بالطبع فإن الدعوة الى عدم اقتناء منتوج معين يعتبر مظهرا من مظاهر إعاقة النشاط الاقتصادي ، و هو تجريم ساري المفعول منذ 1992 ، كما أن قانون المنافسة الألماني يجرم عملية الرفض المنظم لشراء منتوجات أو بضائع لشركة أو مقاولة يترتب عنها إعاقة المنافسة الحرة بين المتنافسين و يعاقب هذا الفعل بسنتين حبسا. و يتبين من القانون المقارن تفاديه استعمال "عبارة الدعوة للمقاطعة " ، ومؤدى ذلك أن التجريم الوارد في المشروع وفق الصيغة المذكورة ينطوي على خلفية الانتقام والإساءة لذاكرة الرأي العام و هو ما تسبب في الانتفاضة الواسعة ضده بكيفية جعلته يستأثر بالاهتمام أكثر من تداعيات جائحة كورونا.

خطورة ترويج الأخبار المزيفة على حرية الآخرين......

صحيح أن تدفق المعلومات و الأخبار و الاشرطة و الفيديوهات و التسجيلات و نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي أصبح مصدر إزعاج و قلق لنا جميعا بسبب صعوبة التمييز بين الزائف و الصحيح و بين الخاطئ و الحقيقي .

وصحيح كذلك أن لا أحد منا يقبل التضييق على حرية التعبير باعتبارها ثمرة لتضحيات حقوقية جسيمة و مظهرا لتراكم مكتسبات دستورية لا يمكن المس بها ، لكن بالمقابل لا تعني ممارسة حرية التعبير كما يتصور البعض التسيب و الفوضى بل تفرض على كل واحد منا واجب الالتزام بحرية و حقوق الآخرين مع ما يترتب عن ذلك من مسؤولية ، و مؤدى ذلك أن ممارسة حرية التعبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي تستلزم استعمال هذه الوسائل بمسؤولية ملتزمة بما يكفل المواطنة الرقمية .

فمن المؤكد أن لا أحد يقبل أن يكون في يوم من الأيام ضحية إساءة بسبب تصفية حسابات أو انتقام من خلال التشهير به وترويج أخبار زائفة عنه ونشر معلومات مضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي . و الملفت للانتباه تهافت البعض على نشر كل شيئ مثير ، دون مراعاة تفادي الإساءة الى الاخرين ، بهدف ضمان كسب موارد مالية تصرف للمعنيين بالأمر كلما حقق ما ينشرونه نسبة عالية من التقاسم و المشاهدة ، و بالفعل أصبحت تلك الممارسة بمثابة نشاط مربح على حساب شرف وأعراض الآخرين . و من البديهي أن يعارض هؤلاء بدون هوادة أي محاولة لتقييد حريتهم في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي ، و الحال أن المطلوب هو ضرورة التوازن بين ممارسة هذه الحرية و ضمان حقوق و حريات الآخرين ، و بالطبع لا يمكن توجيه الاتهام بنشر أخبار مزيفة كلما كان الناشر يتوفر على الأدلة الكافية لإثبات صحتها سواء كان النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها.

قرار الحكومة بتأجيل المناقشة تكتيكي و ليس ناجع...

لئن كانت الحكومة قد استوعبت الدرس و أعلنت عن تأجيل مناقشة المشروع المثير للجدل من طرف اللجنة الوزارية المشكلة لهذا الغرض ، فإن هذا القرار يبقى تكتيكيا لتهدئة العاصفة فقط و ليس بالقرار الناجع لمعالجة المشكل . لذلك فإن الحكومة مطالبة بالحرص على ضمان الأمن القانوني بما يكفل منظومة تشريعية متكاملة و متلائمة مع الدستور و المواثيق الدولية ، و لن يتأتى ذلك الا من خلال الذكاء التشريعي الذي يضمن المقاربة التشاركية المؤدية الى انخراط الجميع و الالتزام الطوعي بما يصدر عن الدولة من قوانين . و بالطبع لا يتوفر هذا الذكاء إلا لحكومة تلتزم مكوناتها بالتضامن الحكومي الضامن لاستمراريتها و لمصداقية أعمالها ، و ليس في حكومة يتربص كل مكون منها بالمكون الآخر و يبحث له عن أي هفوة أو خطأ للمزايدة عليه و تسجيل الاصابات في مرماه ، كما تتبعنا ذلك من خلال تدبير الحكومة لمشروع القانون 22 .  20 ، هذا التدبير الذي أبان عن ضرب التماسك الحكومي عرض الحائط كون كل مكون من مكونات الحكومة عمد الى البحث عن مبررات لتبرئة ذمته من هذا المشروع ، بل ظهر بعضهم يتباهى بانتقاداته و ملاحظاته متجاهلا انتماءه للحكومة الذي يفرض عليه واجب الدفاع عن أعمالها وعن  مشاريعها ، و هو ما عصف بثقة الرأي العام في مصداقية العمل الحكومي بل أثر على أجواء الثقة و التضامن التي انتعشت على نطاق واسع بسبب التعبئة لمواجهة وباء كورونا ، و كانت النتيجة القلق العارم و الرفض التام لمشروع القانون المذكور. و بسبب ذلك كان على الحكومة أن لا تكتفي بالإعلان عن تأجيل مناقشته بل الاعلان عن سحبه تماما ، و تأجيل المبادرة الى هكذا قانون زجري يتعلق بالحقوق و الحريات الى غاية استئناف الحياة العادية ببلادنا.