إذا كانت البشرية قد تعرضت عبر التاريخ لانتشار أوبئة فتاكة من حقبة الى أخرى ، فإن جائحة كرونا لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأوبئة بكل المقاييس ليس فقط بالنسبة لخطورتها الصحية و لكن لتحدياتها المختلفة سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا و اجتماعيا و تكنولوجيا. فلم تصمد أمامها بلدان ظلت تعتبر بالنسبة للجميع أنها قوى كبرى تتحكم في القرار العالمي عسكريا و اقتصاديا و تتكنولوجيا ، و كان أبناء الدول الأخرى ينبهرون بتقدمها و تطورها و يروادهم حلم الهجرة اليها ، بل إن كثير منهم جازف بحياته من أجل تحقيق هذا الحلم ، و بالفعل فإن فيروس كورونا المستجد كشف عن واقع آخر تبخرت فيه أسطورة العالم الغرب
الذي لا يقهر ، وسقط وهم التطور الجذاب ، و انكشفت خرافة حقوق الانسان بهذه البلدان و اختفت العديد من المنظمات و الهيئات التي طالما نصبت نفسها للدفاع عن حقوق الانسان عبر العالم ، فلم يكن أحدا يعتقد قبل كورونا أن تنهزم المنظومة الصحية في هذه البلدان بسهولة أمام الانتشار السريع للوباء و يتم التخلي عن توفير الحماية و العلاج للمصابين بل العجز التام عن التكفل بالوفيات المتزايدة أعدادها في كل يوم ، و من المؤسف أننا تتبعنا كيف لجأت عدة مستشفيات في الغرب الى الانتقاء بين المصابين فيتم اختيار من يحظى بالعلاج و يترك الباقون يصارعون الموت بدون أي علاج في خرق سافر لوهم حقوق الانسان الذى طالما أعطت هذه البلدان الدروس فيها للآخرين ، و بالاضافة الى ذلك فشلت عدة حكومات في توفير ضمانات الوقاية من انتشار العدوى بسرعة إما لعدم انضباط السكان أو لعدم التدابير الاحترازية و الاستباقية الضرورية .
استرجاع الثقة في الدولة
من المؤكد أن متابعة كل واحد منا يوميا لانهيار النظام الصحي و التضامني في أغلب الدول الكبرى بفعل الآثار المدمرة لفيروس كوفيد 19 ، و بالمقابل إدراك كل مغربي لأهمية استراتيجية الدولة في مواجهة هذا الفيروس سواء فيما يتعلق بالتدابير الاحترازية و الصرامة في ضمان التقيد بها أو فيما يتعلق باليقضة الصحية و العلاجية غير المسبوقة لمحاصرة الوباء أو فيما يتعلق بالسياسة التضامنية المنفتحة مؤسساتيا و شعبيا مما حقق التكامل و التناغم بكيفية أدت الى تحقيق نتائج جد إيجابية . و لئن كان نجاح بلادنا قد أبهر مختلف المتتبعين و كان موضوع إعجاب الخصوم قبل الاصدقاء و محل إشادة دولية لم يسبق لها نظير ، فإن سر هذا النجاح يرجع بالأساس الى توحيد مصدر تدبير تداعيات الجائحة بفضل التوجيهات الملكية المتبصرة و الحكيمة ، هذه التوجيهات التي أبانت عن عبقرية ملك و رقي شعب من خلال ما التزم به جميع المغاربة من انضباط و تضامن تلقائي و نكران للذات لا سيما تعبئة الأطباء و الممرضين و رجال السلطة وقوات الأمن و الجيش الملكي و غيرهم ليل نهار لخدمة المواطن . و لئن كان الأمر يتعلق بمرحلة جد صعبة فإن تدبيرها الاستراتيجي أعاد ثقة المواطن في الدولة و جدد اعتزاز كل واحد منا بمغربيته و تبخر وهم الجنة في الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط .
صعوبة إنتاج نظرية موحدة لتدبير ما بعد كرونا.
من المؤكد أن وباء كوفيد 19 قد أطاح ليس فقط بنظرية الدولة المنسحبة من الحياة الاقتصادية بل حتى بنظرية الدولة المستمدة من العقد الاجتماعي لفلاسفة القرن 16 ، ولاحظنا عدة محاولات لقراءة ما وقع و تقديم تصورات لما بعد زمن كورونا. لكن أمام هول الصدمة و ما ترتب عنها من نتائج وخيمة أدت الى انهيار المؤسسات القائمة منذ 1945 ( تصدع الاتحاد الاوربي) ، و تلاشي لمعان الأنظمة المؤسسة على المفهوم الغربي للديمقراطية( مأزق حكومات إيطاليا و اسبانيا و فرنسا ) ، يصعب اليوم تصور نظرية موحدة لتأطير الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية بمختلف الدول على الأقل خلال الخمس سنوات القادمة .
إعادة الاعتبار لهبة الدولة
أظهرت مواجهة جائحة كورونا الحاجة الى دولة قوية وصارمة تحظى بالاعتبار اللازم لدى الجميع ، فمن الثابت أن الافراط في الحرية يؤدي الى ضعف الانضباط و على خلاف ذلك فإن عقلنة ممارسة الحرية تؤدي الى الالتزام بالانضباط ( الصين و كوريا الجنوبية نموذجا) ، و لئن كنا في بلادنا قد عشنا خلال العشرية الأخيرة فقدان الدولة لهبتها بفعل الفهم الخاطئ لحرية التعبير و الافراط في التستر وراء حقوق الانسان و تنامي ظاهرة الشعبوية من خلال بروز زعامات مستهترة تروج للتفاهة و للعبث في استغلال لظروف فئات شعبية واسعة من أجل أغراض سياسية ضيقة ، فإن هذه الزعامات الشعبوية سرعان ما اختفت أمام زحف الوباء و لم يجد المواطن لحمايته و مؤازرته سوى الدولة بمفهومها المؤسساتي فضلا عن العمل الجاد لأبناء هذا الوطن العاملين في الميدان ليل نهار و كذا الحس التضامني الكبير للعديد من الغيورين من خلال مساهماتهم السخية في صندوق محاربة كورونا.
و من خلال كل ذلك يتبين أن التدبير الجيد و الفعال لما بعد كورونا يستلزم الانتقال من مغرب التساهل و الاستهتار و العبث الى مغرب الجد و الصرامة من خلال تقوية الدولة و اعادة الاعتبار الى هبتها و فرض الاحترام الواجب لها ليس بمفهوم الدولة البوليسية بل بمفهوم دولة القانون الصارمة ، و يتطلب ذلك على المدى القصير و المتوسط ما يلي :
على المستوى المؤسساتي :
مراجعة الدستور من أجل تقوية سلطات الملك فيما يتعلق بتعيين الحكومة و عقلنة علاقات الحكومة و البرلمان و مراجعة العدد المفرط لمؤسسات الحكامة ،تقليص عدد أعضاء مجلس النواب الى الحد الأدنى لضمان تمثيلية جهوية مناسبة و إلغاء كل مظاهر الريع السياسي ،مراجعة قوانين الجماعات الترابية من أجل علاقات جديدة و مجدية مع الدولة ،تعزيز استقلالية القضاء مع تقوية منظومة التخليق و التفتيش و الزجر ، تقليص عدد أعضاء الحكومة من خلال الانتقال الى تشكيل أقطاب وزارية عوض المقاربة القطاعية ( أبان تدبير أزمة كورونا عن اختفاء كل الوزارات باستثناء خمسة قطاعات هي الداخلية و المالية و الصحة و الفلاحة و التجارة و الصناعة).
مراجعة قانون الأحزاب السياسية بما يكفل عقلنة التعددية السياسية و يسمح بالتنافس النبيل بين أحزاب قوية جادة في منهجية عملها و متطورة في أدائها .
على المستوى الاقتصادي :
دعم حرية المبادرة و اقتصاد السوق ، تقوية دور الدولة في تحديد شروط ممارسة النشاط الاقتصادي و التحفيز الذكي للاستثمار و توجيه الاستثمار العمومي لتقليص الفوارق بين الجهات ،رعاية الدولة للتجارة الخارجية من خلال الضبط و المراقبة ،الإلغاء التدريجي لجميع أشكال الريع و الامتيازات.الاهتمام بالعالم القروي بكيفية أكثر جدية و حزم من خلال توفير البنيات الاساسية و الخدمات الضرورية بما يكفل الاستقرار و العيش الكريم لساكنة هذا العالم .
على المستوى الاجتماعي :
يسود اليوم شبه إجماع حول الخصاص المهول الذي تعاني منه الصحة و التعليم ، و تتعدد الاقتراحات الرامية الى تدارك هذا الخصاص ، و لئن كان من المؤكد عدم جدوى الوصفات الجاهزة ، فإن الامر يتطلب إصلاحا جذريا لهذين القطاعين الحيويين مخالف للإصلاحات السابقة في منهجيته و أدواته و أهدافه ، إصلاح يحقق طموح جميع المغاربة في تعليم نافع يؤهل الاجيال القادمة لولوج اقتصاد المعرفة و التكنولوجيات الحديثة و ينمي فيهم روح الابداع و الابتكار ، و في نظام صحي متطور و مفتوح الولوج للجميع من أجل العلاج و الاستشفاء و ضامن لتطوير جودة الخدمات باستمرار. و لن يحقق أي إصلاح هذه الأهداف إلا باعتماد مقاربة منفتحة تسعى الى خدمة المصلحة العليا للوطن و المواطنين في استبعاد تام للتسييس و المصالح الفيؤية الضيقة و الاستئناس بالتجارب الناجحة دون الاستنساخ الأعمى الذي لم يؤد سوى الى الفشل و خيبات الأمل فيما سبق من إصلاحات.
كما نطمح جميعا الى مغرب لجميع المغاربة تذوب فيه الفوارق و يتعزز فيه التضامن و يسود فيه التشبع بالقيم و الأخلاق التي أصبحت مع الأسف عملة ناذرة ، مغرب تنصهر فيه السياسات العمومية و تتكامل فيما بينها من أجل تحفيز التشغيل و محاربة البطالة بما يكفل التصدي للفقر و الهشاشة و ضمان كرامة جميع المغاربة و تمكينهم من العيش الكريم .
من المؤكد أن بناء المغرب الجديد الذي يرغب فيه كل مغربي غيور يتطلب إجماعا وطنيا على ثوابت الأمة و توافقا سياسيا على مختلف الاصلاحات الدستورية و المؤسساتية و السياسية و التشريعية و القطاعية ، بما يتطلبه ذلك من تحلي جميع الفاعلين بروح المواطنة الصادقة و التخلي عن الصراعات السياسية و هجر المصالح الضيقة ، فلا مكان في مغرب المستقبل للانتهازية و الشعبوية و الاستهتار و الفساد ، و بدون إدراك الجميع لتحديات المرحلة و صعوبات تجاوزها لن نتمكن من المرور جميعا الى بر الأمان ، فلا خيار أمام بلادنا إلا الانخراط الايجابي لجميع المواطنات و المواطنين في كل المبادرات الاصلاحية و نبذ الحقد الاجتماعي و تقوية التضامن في ثورة جديدة للملك و الشعب من أجل كسب رهان المستقبل بنجاح.