قبل فيروس كورونا .. تعاقب على المغرب الطاعون والكوليرا الأكثر فتكا بالمغاربة

شهد المغرب عدة هزات وتوجسات سببتها أوبئة ومجاعات عمرت لعقود طويلة من الزمن عبر التاريخ، وأسقطت عشرات الآلاف من الضحايا، مؤثرة بذلك على اقتصاد البلاد والعباد. وقد خلفت هذه الجوائح في الذاكرة الجماعية للمغاربة رواسب نفسية لم تندمل جراحها بعد، بل لازال المغاربة يتغنون بها ويستلهمون منها قصص أسلافهم إلى اليوم، وهو ما يكمن استحضاره في ظل هذه الأزمة الحرجة لاستيعاب تداعيات فيروس "كورونا المستجد" على المغاربة.
الامتحان العسير الطاعون و"بوكليب"
خلف الطاعون والكوليرا المعروف لدى المغاربة بـ (بوكليب)، آلاف الضحايا وشردا وجوّعا الملايين، وهما الأكثر شيوعا في سلسلة الكوارث الصحية التي مرت منها البلاد في العهود السالفة متجاوزة إياها بشق الأنفس.
ويوضح محمد الأمين البزاز، في كتابه "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر"، أن الطاعون رمى بكل قسوته على البلاد سنة 1742 بعدما فتك بسكان مصر وتونس والجزائر، خالقا بذلك كابوسا آخر بعد آثار المجاعة التي جثمت على الإيالة الشريفة ما بين 1721و1820 .
وما أن استعاد المغرب أنفاسه تدريجيا من ويلات "الطاعون الكبير"، حتى حلت جائحة أخرى تضاهيه من حيث القوة التدميرية، ونقصد هنا الكوليرا التي كان المغاربة يطلقون عليها أنداك "بـوكليب"، بعدما اكتسح المعمور في خمس مرات في غضون القرن التاسع عشر.
ويضيف المؤرخ، أن الوباء ضرب البلاد أول مرة سنة 1834، وظهر مجددا في فترات أخرى، رغم ما قام به المخزن في عدة مدن، وكذا القناصل الأجانب في أول ظهور له في طنجة، باتخاذهم محاولات دفاعية متعددة ضده، كقرارات الطرد وفرض الحجر صحي ضد السفن الموبوءة أو المشكوك فيها.
وعن مخلفات هذه الكوارث، يصف البزاز، أن المجاعة والطاعون عطلا الفعاليات البشرية والاقتصادية، وسار الكساد في كل ميدان من ميادين المبادرة الاقتصادية التي كبحتها القوة الشرائية المنهارة وضعف الأحياء، مسببة بذلك في دمار ديمغرافي لم تذكر معه الخسائر في الحروب.
في حين أن الكوليرا، كان لها وقع آخر على حياة المغاربة، وما أعطاها بعض الخصوصية عن سابقاتها في سلسلة الكوارث التي مرت بالبلاد، هو تزايد الأطماع الاستعمارية الأوروبية أنداك اتجاه المغرب (معركة إيسلي، ومعاهدة 1856 التجارية، وحرب تطوان)، خلال تلك الحقبة التي تفاقم فيها الأمراض وكذا تفشي الفقر والجفاف.

فظاعة الأزمة
من المؤشرات على فظاعة الأزمة التي خلفتها هذه السلسة من الكوارث الصحية التي مر منها المغرب، أشار عدد من المؤرخين إلى أن الطرقات والأزقة تكدست بالجثث، حيث كان يرمى بها في مقابر جماعية، أو أن تترك في العراء لتنهشها الكلاب.
ومع توارد أخبار الموت الذي سيطر على عقول الناس من أثر الفاجعة، مستسلمين بذلك لليأس لدرجة تهافت الكثير منهم أنداك كما يقول البزاز على شراء "الكتان لتلف به جثثهم حينما يأتي دورهم كما عمدوا إلى إفراغ مطاميرهم وتوزيع ما تختزنه من أقوات على الفقراء وتهييئها بذلك لتكون مقرهم الأخير".
وكما دفعت هذه الأزمات بالمغاربة لتغيير عاداتهم الغذائية وتناولهم لحم الخنزير والكلاب والقطط، وبيع أبنائهم لسد رمق الجوع الذي استفحل في هذه الفترات الحرجة والعصيبة بحسب المؤرخ محمد حبيدة في كتابه "المغرب النباتي: الزراعة والأغذية قبل الاستعمار".
في الحاجة للمخزن
لعب المخزن دورا هاما في تدبير شؤون البلاد والعباد أثناء المجاعات والأوبئة، حيث ركز على توضيح وظيفته الاجتماعية في مثل هذه الأوقات ومواقف الفقهاء من التداوي والحجر الصحي (أدبيات الطواعين والكرنتينة)، وما رافق ذلك من طقوس دينية لرفع غضب السماء وتأثيرات الجوع على السلوك الاجتماعي.
وقد قام المخزن بعدة إجراءات للتخفيف من تبعات المصائب التي حلت بالإيالة الشريفة خلال تلك الحقبة، كتوزيع الصدقات وتزويد الأسواق بالحبوب ومحاربة الاحتكار، لتأمين لقمة العيش للناس بالسعر المعقول حسب ما جادت به دفتي كتاب البزاز.
ويشار إلى أن الأوبئة ليست بغريبة عن تاريخ المغرب غير أن خطورتها تتمثل في كونها تزور البلد بصفة دورية جعلت معها النمو الديمغرافي المغربي يتخذ شكلا منشاريا. وبالعودة إلى جائحة كورونا التي غزت المعمورة اليوم فيمكن اعتبارها إحدى هذه الكوارث الصحية التي تفهم في إطار الزمن الطويل الذي خطّه المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل، حسب بعض المؤرخين.


شاهد أيضا

التعليقات مغلقة.