الجهوية المتقدمة و سؤال ترسيخ الديمقراطية المحلية

تعتبر الجهوية المتقدمة اليوم من أبرز الآليات التي تبنتها معظم الدول الرائدة في مجال تجويد السياسات الإدارية المعاصرة، لما تشكله من تجسيد حديث لنظام اللامركزية الإدارية والمالية، أضف إلى ذلك ما تقدمه من تفعيل ديمقراطي تشاركي يتمثل في إشراك المواطن في صنع القرار المحلي، و العمل على تتبع المخططات، و البرامج التنموية.

وبالتالي اصبحت الجهوية المتقدمة التي أقرها دستور 2011، وما تمخض عنه من مبادئ الحكامة، وربط المسؤولية بالمحاسبة و الرقابة المالية.

كلها آليات جعلت منها من الأوراش التي عمل جلالة الملك محمد السادس هلى جعلها أولوية في وقتنا الحاضر، لما لها من أهمية في مسلسل الإصلاح الإداري  بغية تحقيق التنمية المستدامة و ترسيخ الديمقراطية المحلية. و بالتالي تحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي، و التصدي لاختلالات والفوارق المجالية والاجتماعية.

بالرجوع الى السياق السياسي و الدستوري لتبني مشروع الجهوية نجد انه في فترة الحماية كان لوقع القرار الصادر عن المقيم العام الفرنسي بتاريخ 4 غشت 1912 تقسيم البلاد مدنيا إلى اربع جهات -الرباط الدار البيضاء - جهة الغرب - اسفي مازكان الجديدة - الصويرة موكادور و ثلاثة جهات عسكرية -فاس -مراكش -مكناس.

لكن سرعان ما تغير هذا التقسيم سنة 1935 إلى مناطق مدنية وعسكرية، فقد كان لهذه الفترة الإستعمارية الأثر العميق على بناء نمودج الدولة المغربية حيث أفضت إلى تولد تناقض بين نمطين مرافقين لحالة الإدارة المغربية، أحدهما تقليدي و الأخر عصري مرتكزا أساسا على تقسيم المغرب وفق منضور فرنسي إلى مغرب نافع و غير نافع.

أضحت القطيعة الإبستمولوجية مع هذه الإزدواجية رهان دولة ما بعد الإستقلال، إذ شكل التقسيم الجهوي تثمينا للمجهودات الحتيتة، و المرتكزة في الأساس على إعطاء الجهة الريادة في التدبير و التسيير، فكان لزاما على الدولة مواكبة هذا التحول بإرساء إطار قانوني تجسد في صدور ظهير 1971 المتعلق بتنظيم الجهات ليشكل بذلك اللبنة الأولى لتشييد تنظيم جهوي جوهره قاعدة ترابية متمثلة في الجهة كسبيل لتحقيق التنمية عبر تكريس الديمقراطية المحلية.

إن الديمقراطية المحلية حسب معظم الباحثين في المجال هي تفاعل المواطنين و إشراكهم في التدبير المحلي ، سواء بواسطة الإنتخابات المحلية التي يتم من خلالها إختيار ممثليهم في الجماعات الترابية من أجل تشكيل مجالس محلية، أو من خلال إشراك باقي الفاعلين المحلين من المجتمع المدني في الإقتراح، و المراقبة، وكذا التسير المحلي عن طريق تشكيل لجان محلية بغية الوصول إلى تنمية محلية مستدامة، من هنا تعد مشاركة المواطنين في هذه الإنتخابات ركيزة أساسية للديمقراطية المحلية، و تكريسا للامركزية الترابية شرط إحترام و تفعيل مبادئ الشفافية، النزاهة، و ربط المسؤولية بالمحاسبة عبر الإنزال السليم للمقتضيات الدستورية المتعلقة بتكريس الحكامة المحلية، تأتي إذن الجهوية المتقدمة بأبعادها الثلاتة :

1: كمدخل ملح و ضروري في وقتنا الحاضر من أجل دعم مسلسل الديمقراطية المحلية بالمغرب لا سيما بعد الخطاب الملكي لـ9 مارس، الذي يعد مرجعا أساسيا لتفعيل ورش الجهوية المتقدمة بخصوصيات مغربية قادرة على مواكبة التغيرات الديمقراطية المستمرة التي تعرفها الدولة، و ما عرفته من تحولات سياسية و اجتماعية لاسيما لعد تعديلات الدستور في سنة 2011, و ما تمخض عنها من مؤسسة و دمقرطة مجموعة من المؤسسات الدستورية في مجال الحكامة

2: كركيزة تعمل على تحقيق التنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا، مما يجعل النمودج المغربي متميزا في تجربته المجالية التي من شانها تعزيز مبادئ الديمقراطية و إعطائه بالتالي مكانة ريادية إقليميا.

3: كحل لقضية الصحراء المغربية بحيث طرحت عملت الجهوية المتقدمة بالمغرب  وفق الإصلاح الدستوري الذي ينص على إعتبار الجهوية مرحلة تمهيدية فعالة نحو الحكم الذاتي تكملة للمقترح المغربي لحل دائم لقضية الصحراء، أخدا بعين الإعتبار مبدئ التضامن بين الجهات الذي لا يمكن أن يتحقق دون إرساء دعائم ملموسة و فعالة للديمقراطية المحلية عبر إشراك القطاع الخاص كفاعل أساسي في إعداد، و تدبير وكذا تنفيذ للمخططات الجهوية، و تحقيق ذلك راجع بالأساس لمأسسة الديمقراطية التشاركية.

إن تفعيل مشروع الجهوية المتقدمة يعد بالفعل ورش من الأوراش الكبرى يستلزم تظافر مجهودات كل الفاعلين و المتدخلين في الشان المحلي، إلا أن تباين إقتراحاتهم بخصوص النمودج المغربي للجهوية يجعل لزاما تبني أليات لتدبير الإختلافات مستندة في الأساس على تجاوز الحسابات السياسوية الضيقة و التركيز على المشترك، إضافة إلى تبني مقاربة الذكاء الترابي الكفيلة لتجويد المشروع و الوصول به إلى مراحل متقدمة جوهرها سياسات عمومية تشاركية، و التي من خلالها سيتم كسب رهان الديمقراطية المحلية و بالتالي تحقيق تنمية محلية مستدامة.

من أجل ذلك يحتاج اليوم المشروع بعد سيرورة التحولات التي عرفتها الدولة إلى الموارد البشرية و المالية تنتقل به إلى الأجرأة السليمة و الفعالة التي يستحقها هذا الورش المستدام الذي تبناه المغرب على غرار العديد من الدول الرائدة في مجال الدمقرطة الترابية.