لا يخلو واقع مخيمات تندوف من التناقض الصارخ، الذي لا تخطئه العين، بل إنه، في السنوات الأخيرة، بات السمة الأبرز، فكل ما يحدث في تندوف ومخيماتها متناقض حد التصادم.
فليس سرا أن السكان هناك يمرون بظروف معيشية صعبة جدا، دفعت بعض الشباب الى التصادم المباشر مع الجيش الجزائري، الذي لم تعد لديه أي موانع في قتل ثلاثة أو أربعة أشخاص بشكل أسبوعي، دون أن يحرك ذلك شعرة واحدة في قادة “بوليساريو”، الذين فضل زعيمهم إبراهيم غالي، التوجه إلى فنزويلا لاستعراض “دراعاته” الجديدة، هاربا من واقع ساهم فيه، بغبائه وضعف محيطه، لدرجة أن الجزائريين فقدوا فيهم أي أمل لإحياء مشروعهم التوسعي نحو المحيط، في ظل واقع يزداد تأزما، بينما إبراهيم غالي وزبانيته يزدادون ثراء.
على مدى ثلاث سنوات الأخيرة، أي بعد سقوط بوتفليقة في الجزائر، وصعود تيارات جديدة داخل الجيش الجزائري، فقدت “بوليساريو” العديد من أصدقائها وحلفائها داخل ثكنة عنتر وقصر المرادية، فمعظم الضباط الجدد يرون في هذا التنظيم عبئا، تكاليفه أكثر من أرباحه، الأمر الذي انعكس على حياة السكان في المخيم ونتجت عنه سلسلة من الاغتيالات للشباب، وتجاوزات أخرى خطيرة في حق المدنيين، إذ أصبح الأمن العسكري الجزائري يطارد مطلوبين داخل المخيمات، بل إنه ينفذ مداهمات ليلية ضد أشخاص يسببون له الإزعاج داخل المخيمات، من نشطاء أو تجار، وبالمقابل تجد قادة “بوليساريو” منشغلين تماما بـ “السيلفيات” الكاذبة، التي عبثا يحاولون بها ترويج صورة غير حقيقية عن واقع جمهورية الخيام، لكن الأحداث باتت أكبر من أن تغطيها زيارة فلكلورية لإبراهيم غالي لإحدى دول بقايا السوفيات هناك في أقصى الكرة الأرضية.
فزيارة كبير مغتصبي “بوليساريو” إلى فنزويلا ليست إلا هروب واضح من الضغط الحاصل بالمخيم، الذي ينبئ بانهيار منظومة “بوليساريو” الداخلية، بعد فشل الذين جلبهم، عقب مؤتمره الأخير، في إحداث أي تغيير إيجابي. فصديقته مريم منت احمادة، التي عينها وزيرة للداخلية، لم تتسلم مهامها حتى اللحظة بصفة رسمية ولاتزال تماطل بسبب ما قيل إنه رفض عمر منصور إرجاع خمسة ملايير جزائرية كانت في خزينة الوزارة قبل المؤتمر، واكتفت منت احمادة، حتى اللحظة، ببعض الصور والخرجات الإعلامية.
أما مدير الأمن الجديد، والذي فشل في الحفاظ على عضويته في أمانة “بوليساريو”، فلم يعد من إسبانيا، حتى اللحظة، وتتوالى أنباء تفيد أنه هو الآخر رفض بشكل قطعي المنصب، واعتبره انتقاصا منه، لأنه كان يشغل منصب قائد ناحية وليس من المعقول، حسب وجهة نظره، ألا يتم تعيينه، على الأقل، ركنا من أركان المؤسسة العسكرية، بدل الأمن الذي بات يتبع مباشرة للكتابة العامة أي مكتب إبراهيم غالي، وأي شخص سيتولى هذا المنصب إنما سيكون مجرد دمية لا روح فيها.
ولا عجب أنه، وسط هذا الترهل الحاصل في مختلف أركان “بوليساريو” ومخيماتها، أن يسحب الجيش الجزائري البساط من تحتهم، ويتولى بنفسه مهمة تأديب السكان، الذين خنقتهم الإجراءات والأحزمة الرملية الجزائرية، بينما يستعرض الرئيس الجزائري، في لقائه الأخير، مع “الجزيرة”، ما أسماه علاقات أخوية تربط “بوليساريو” مع الجزائر، ولو كلف نفسه النظر قليلا لواقع الناس في المخيمات، لاستحيى من نفسه. ففي ظرف أربعة أشهر فقط، اغتال الجيش الجزائري خمسة شباب، وأصاب ثمانية عشر شابا بجروح متفاوتة، وتهمهم هي البحث عن لقمة العيش، فمعظم السيارات التي أطلق عليها حرس الحدود الجزائري النار كانت تحمل إما الزيت أو الدقيق أو بضعة لترات من المحروقات يتاجر بها شباب تقطعت بهم السبل، علهم يعودون إلى ذويهم من العجزة والأطفال، بما يسد رمقهم، بينما تخرج غير بعيد عن أماكن إطلاق النار، عشرات الشاحنات الكبيرة المحملة بمختلف مواد المساعدات الإنسانية المهربة إلى مختلف دول الساحل، وتحمل ترخيصا من الجمارك الجزائرية، ولعلها في بعض الأحيان حظيت بمرافقة سيارات من حرس الحدود حتى تعبر المنطقة العازلة دون أن يمسها شيء، لأنها في النهاية مملوكة لبارونات بيع المساعدات الإنسانية من ضباط جزائريين و أتباعهم بقيادة “بوليساريو”.
هذا هو واقع المخيم، الذي جعل مئات الشباب الصحراوي يغادره عبر قوارب الموت من السواحل الجزائرية، نحو أوربا، بعدما أصبح جل صحراويي لحمادة مقتنعين بأن رقصات غالي على دماء الصحراويين وتجنيده للعشرات من بني عمومته لنشر “سيلفياته” عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لن تزيد في عمر هذه العصابة التي أحرقت الحاضر والمستقبل لتجد نفسها أمام أكبر خيانة لبني جلدتها عرفها التاريخ.
عن يومية الصباح