استقبل الملك محمد السادس الرئيس الفرنسي في زيارة دولة لتجديد الدماء في العلاقات بين المغرب وفرنسا بعد أزمة دامت لمدة ليست بالقصيرة، يروم الانتقال نحو مرحلة جديدة في إطار شراكة استثنائية واستراتيجية متجددة.
هذه الزيارة التي شهدت إلقاء الرئيس الفرنسي لخطاب أمام البرلمان بغرفتيه، من خلالها جدد الرئيس موقف فرنسا الداعم "لسيادة المغرب" على أقاليمه الصحراوية، هذا التأييد لم يأت من فراغ، بل من مضمون المبادرة والصورة التي يرسمها المغرب على المستوى الإقليمي والدولي.
فكيف صاغ الرئيس الفرنسي خطابه؟ وكيف تجلت الهوية المغربية والسيادة في هذا الخطاب؟
تطرق خطاب ضيف جلالة الملك إلى ثلاثة نقط رئيسية بنى من خلالها بنيات النص الذي تلاه في البرلمان المغربي، بحضور رئيس الحكومة ووزراء مغاربة إضافة إلى أعضاء الوفد الفرنسي الذي يرافق الرئيس في رحلته.
النقطة الأولى وهو الشق المتعلق بالتاريخ والذي تطرق من خلاله الرئيس الفرنسي إلى أهم ما ميز العلاقات المغربية الفرنسية منذ الفترة التي سبقت فترة الحماية، حيث تطرق عبد الله بن عائشة الملقب "قبطان البحر" وهو أدميرال وقرصان ودبلوماسي مغربي، كان يمثل السلطان المولى إسماعيل أمام ملوك فرنسا وإنجلترا، كما عين على رأس السفارة المغربية لفرنسا، ثم إدريس بن محمد العمراوي والذي كان من أعلام مغرب القرن التاسع عشر عين كاتبا خاصا بالقصر الـسلطاني، ثم وزيرا للخارجية، ثم سفيراً إلى باريس.
كما تطرق إلى "ماغوك بريس" وهي صحيفة مغربية إخبارية عامة ناطقة بالفرنسية تأسست خلال فترة الحماية في المغرب، في 11 ماي 1954، عرضت على صفحتها الأولى رسالة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، كانت بمثابة نقطة تحول في إنهاء الاستعمار،
وما فتئ الرئيس الفرنسي بالتذكير بالتاريخ والذي أخذ حيزا كبيرا في أسطر هذا الخطاب، التاريخ المشترك خلال عدة مراحل في خطابه، داعيا الدولتين لتقاسم واستحضار الروابط والآداب والثقافة المشتركة خصوصا على الأراضي المغربية التي وصفها "بأرض الآداب والثقافة بامتياز"، وتأكيدا لذلك فقد ذكر من هذا الجانب الطاهر بنجلون، عبد اللطيف اللعبي، ومن الجانب الآخر أوجين ديلاكروا، وجاك ماجوريل.
وهو ما يؤكد على احترام وتقدير الذاكرة المشتركة، من خلال عدم الانصهار مع العقيدة الاستعمارية، وهو الذي توجه إليه جاك بيرك -الذي تم ذكره هو الآخر في الخطاب -برفضه للسياسة الاستعمارية بالمغرب.
ثم النقطة الثانية وهو الشق المتعلق بالهوية المغربية والتي وصفها الرئيس الفرنسي بالعميقة بحيث تعتبر المملكة المغربية من أقدم السلالات الملكية الحاكمة في العالم بكل ثقة وثبات عبر التاريخ، جعلت من الدولة مثالا متميزا بهويته التي تضمن الحوار والتسامح والإسلام كدين للدولة بصفة الملك أميرا للمؤمنين، جاعلا محاربة التطرف والإرهاب من بين التوجهات الأساسية للمملكة لسيادة الأمن والأمان والازدهار.
فرنسا تقتسم مع المملكة المغربية حسب الرئيس الفرنسي، نفس القيم والمبادئ والتي تتمثل في مناهضة العنف والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والدعوة إلى الاستقرار وأمن الشعوب وازدهارها بكل احترام ومسؤولية في بناء مجال آمن يسهل التعاون بين الدول، وهو الشيء الذي يعطي للمنطقة المتوسطية دورها البارز على المستوى الدولي.
كما أكد على أن هوية المملكة تظهر من خلال البناء المؤسساتي التي واظبت عليه سواء من خلال القوانين أو من خلال التوجهات العامة للدولة، وأكد أيضا على وحدة المغرب الترابية والتي تعتبر جزءا لا يتجزأ من الهوية المغربية من خلال قوله: "أعيد التأكيد أمامكم، في نظر فرنسا حاضر ومستقبل هذه المنطقة يندرجان في إطار السيادة المغربية"
ثم النقطة الثالثة وهو الشق المتعلق بالسيادة وهي النقطة التي عرفت تفاعلا وتصفيقات من الحاضرين بقبة البرلمان، الأمر يتعلق بتجديد الرئيس موقف فرنسا الداعم "لسيادة المغرب" على أقاليمه الصحراوية، ومن خلال ذلك الدور المغربي في المنطقة من أجل استتباب الأمن وتطوير رؤية المملكة في دينامية متقدمة اقتصاديا واجتماعيا تجعل من المملكة تتبوأ دورا رياديا ليس فقط على المستوى القاري وإنما على المستوى الدولي.
وقد جاءت هذه الشراكة في احترام تام بين الدولتين، احترام للتاريخ، احترام للسيادة الداخلية للدول، بمبادئ مشتركة، وعلى ضوء ذلك ستقوم فرنسا بالدفاع على هذا الطرح الذي تبنته الدولة الفرنسية في جميع المؤسسات الدولية، مؤكدا على الرؤية الجديدة التي تعتمد على الإرث التاريخي والجغرافي والحضاري والثقافي، مما يساهم في تماسك المجتمعات، ويذكر الجميع بالتزاماته وقيمه وأماله وأهدافه، رؤية واضحة جسدها وبلورها صاحب الجلالة طيلة مدة حكمه بكل عزم وإخلاص.
بين كل هذا عرفت تركيبة الخطاب العودة إلى خطابات صاحب الجلالة في عدة مناسبات كمرجع يرتكز عليه لبناء التوجهات البنائية لخطابه، والذي اختتمه بعاشت المملكة وعاشت فرنسا، بما في ذلك من دلالات للدولتين.
يوسف الحفيرة
طالب باحث بســلك الدكتـوراه
الدراسات والأبحاث القانونية والسياسية