لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب مجرّد منصات للتعبير الحر وتقاسم المعرفة، بل تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى ساحة يعمّها التهريج، التفاهة، والسب، والتشهير. هذه الوسائل، التي كان يُفترض أن تكون محفزاً على التفكير وتبادل الأفكار، صارت أداة لترويج الانحطاط القيمي واللفظي.
جولة سريعة في “فيسبوك”، “تيك توك”، أو “يوتيوب” تكفي لتكتشف الكم الهائل من المحتوى المبني على الفضائح، النزاعات المفتعلة، والتجاوزات الأخلاقية الصارخة، في ظل سباق محموم نحو “البوز” و”الترند”.
من التأثير إلى الإثارة الرخيصة
لم يعد الهدف من “صناعة المحتوى” هو الإبداع أو الإلهام. كثير من “اليوتيوبرز” و”التيكتوكرز” المغاربة باتوا يراهنون على خلق الجدل، المقالب السخيفة، فتح الخصوصيات أمام الكاميرا، وحتى التفوّه بكلمات نابية في بث مباشر، فقط لجلب مشاهدات أكثر والرفع من مداخيلهم المادية من خلال البهرجة. وكل هذا يتم على حساب وعي الجمهور، خصوصاً الفئات الناشئة التي تقتدي دون تمحيص بهذه النماذج.
السبّ والقذف… على المباشر
أصبحت الشتائم تُقال على الهواء دون خجل، وأصبحت كلمات التحقير والسخرية أداة لجلب المتابعين، المؤلم أن بعضاً من هؤلاء “المؤثرين” يقدّمون أنفسهم كنماذج نجاح، بينما هم في الواقع يسهمون في تعميق الرداءة الرقمية. تعليقات المتابعين تتخذ نفس المنحى حتى نجد أنفسنا وبدون سابق إنذار وسط "حمام" يتراشق رواده ب"السطولة" افتراضيا.
التشهير: عناوين مربحة على حساب الكرامة
منصات بأكملها باتت تتخصص في نشر الفضائح، سواء كانت حقيقية أو مفبركة. صور وتسجيلات تُعرض خارج سياقها، تُستخدم لتصفية حسابات أو لجذب الانتباه، بينما تُنتهك الكرامة الإنسانية وحرمة الحياة الخاصة، بلا وازع أخلاقي أو قانوني.
التشهير بشخصيات معروفة أو حتى بأناس عاديين تحوّل إلى محتوى رئيسي لدى البعض، بضع تسجيلات تكفي لإطلاق موجة من السخرية والتجريح، وأحياناً التهديد والتحريض، مواقع وصفحات متخصصة في “الفضائح” باتت تقتات على سمعة الآخرين، ولا تجد حرجاً في تقديم معلومات شخصية أو نشر محتويات مسروقة ومخترقة من هواتف أصحابها فقط من أجل "التكبيس واللايك والسوبر شات"
تفاعل السلطات… بداية أمل
في الآونة الأخيرة، بدأنا نرى تفاعلاً فعلياً من طرف السلطات المغربية، حيث تم اعتقال عدد من المؤثرين الذين تجاوزوا حدود القانون، وتقديمهم إلى القضاء بتهم تتعلق بالسب، القذف، والتشهير عبر الإنترنت. هذه الإجراءات، وإن كانت متأخرة، إلا أنها تبعث رسالة مفادها أن الفضاء الرقمي ليس فوق القانون.
الأمل معقود على أن يستمر هذا التوجه، مع تبسيط المساطر القضائية لتشجيع الضحايا على التبليغ، وتحصين الحقوق الرقمية للمواطنين.
رغم التفاهة… محتوى هادف يسطع في الفضاء الرقمي المغربي
رغم الانتشار الواسع للمحتوى التافه في الفضاء الرقمي المغربي، الذي يركز في كثير من الأحيان على الإثارة والفضائح لجذب المتابعين، يبرز في المقابل عدد من صنّاع المحتوى الهادف الذين يسعون إلى تقديم بديل نوعي يرتقي بالذوق العام ويعزز الوعي المجتمعي. هؤلاء الشباب يوظفون المنصات الرقمية لنشر المعرفة، وتبسيط العلوم، ومناقشة قضايا مجتمعية وثقافية بشكل عميق ومسؤول. ورغم التحديات التي يواجهونها، سواء من حيث قلة الدعم أو صعوبة الانتشار أمام المحتوى السطحي، فإن تأثيرهم آخذ في التنامي، ما يدل على وجود جمهور متعطش لما هو أرقى وأصدق في هذا الفضاء المتحوّل
الكرة في ملعب الجمهور أيضاً
في النهاية، صُنّاع المحتوى لا يتحركون وحدهم، الجمهور هو من يمنحهم المتابعة والتفاعل، وهو أيضاً من يمكنه أن يغير قواعد اللعبة، حين يتوقف الناس عن دعم الرداءة، ويدعمون المحتوى الراقي والهادف، فإن الفضاء الرقمي سيتغيّر حتماً.
الرهان اليوم ليس فقط على القانون، بل أيضاً على الوعي الجماعي، والتربية الإعلامية، لأن ما نستهلكه يومياً، هو ما يصوغ وعينا، وما نُشارك في نشره، هو ما يعكس صورتنا كمجتمع.