الفاعل الترابي أمام اختبار تقييم قدراته في الصمود ومواجهة الأزمات والكوارث

يتجه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إلى اختبار قدرات الفاعل الترابي في مواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية؛ خصوصا وأن العالم يعيش على واقع أزمات متتالية جيوسياسية وصحية وبيئية، وكوارث طبيعية.

وقد كان لهذه المتغيرات وقع كبير على الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وعلى مردودية وسلاسل الانتاج، الأمر الذي دفع الكثير من المقاولات إلى الاغلاق، ما أفضى إلى تراجع الأنشطة الاقتصادية وارتفاع نسبة البطال، مقابل قلة العرض َوارتفاع الطلب، ما أدى إلى تخضم عالمي غير مسبوق.

وفي صلب هذه الاضطرابات، ظهرت الحاجة إلى الدولة من أجل التدخل الاستعجالي، قصد إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر خطط وحلول ترقيعيه استعجالية، في شكل تدابير ومسكنات اقتصادية مؤقتة، في انتظار تعافي الاقتصاد العالمي والوطني وانتعاشه من جديد، قصد القيام بإصلاحات جذرية، من شأنها أن تمكن الاقتصاد الوطني ليكون أكثر مثانة في مواجهة الصدمات.

ورغم أن المغرب أثبت قدرته على الصمود أمام الصدمات الدولية، إلاّ أن المقاربة القطاعية والمركزية ليست الوحيدة المعنية بمواجهة هذه الصدمات، بل هناك فاعلين اَخرين معنيين بما فيهم القطاع الخاص والفاعل الترابي؛ هذا الأخير من شأنه أن يمتص جزء من الصدمات، عبر الصلاحيات المخولة له والاختصاصات المحلية، والإمكانيات الذاتية الممنوحة له، من أجل تخفيف العبء على الدولة المركزية.

فالدولة ظلت تقاوم لوحدها تأثير الأزمات والصدمات، بل وتواجه صدمة تلوه الأخرى منذ جائحة كورونا، تلتها الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي دفعها إلى خيار الإصلاح الهيكلي، وتحمل تداعيات هذا الخيار، من خلال تبني المقاربة الاجتماعية بالموازاة مع الخيار الاقتصادي، رغم أن معادلة التوفيق بين الدولة الاجتماعية واقتصاد السوق في اَن واحد جد صعبة، بل وفي عز الأزمة العالمية التي تعرف الغلاء في المواد الأولية والفلاحية والطاقية والمعدنية، مما أدى إلى تضخم عالمي.

وما زاد الطينة بلة، هي كارثة الزلزال الذي ألمّ بالمغرب، وهو ما يعني سياسات تقشفية جديدة لمواجهة تأثير الكارثة، من أجل التعويض والتأهيل والبناء، الأمر الذي جعل الدولة أمام رهان حقيقي للتوفيق بين كل هذه التحديات التي تتطلب إنعاش الاقتصاد وتوفير مناخ الاستثمار، مع إرساء أسس الدولة الاجتماعية وإعاده الأمل إلى المنطقة المنكوبة، والتخفيف من حدة الأزمة العالمية للتضخم وغلاء الأسعار.

وبالرجوع إلى ورش الجهوية المتقدمة، نجده حظي بأهمية بليغة منذ سبعينات القرن الماضي، غير أن محطة دستور 2011 أعطت للمفهوم نفس جديد بعد أن أقرها، واعتبره ثابت وأرفقه بمقتضيات متعلقة بالتدبير الجهوي، والحكامة الترابية، والتنمية الجهوية والمندمجة، وتعزيز اللاتمركز الإداري.

أما الرؤية الملكية ترتكز على المضي في تفعيله منذ 2008، لما يحمله من حلول وإجابات للمطالب الاجتماعية والتنموية بمختلف جهات المملكة، من خلال فتح صفحة جديدة مع مسار الجھویة المتقدمة.

واعتبرته اللجنة الاستشارية للجهوية سنة 2010، توجها حاسما لتطوير وتحديث هياكل الدولة، والنهوض بالتنمية المندمجة؛ وبناء على ذلك تم إصدار جملة من النصوص التشريعية والتنظيمية من أجل الانتقال نحو الجهوية، بالإضافة إلى بلورة ميثاق لللاتمركز الإداري.

وبعد كل هذه النصوص والتوصيات والأوراش التي تم اعتمادها، أضحت الجهة ممثلة في الجماعات الترابية، تتمتع باختصاصات واسعة، لتنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما ينسجم مع الجهوية المتقدمة؛ في إطار الوحدة والتكامل والتضامن والتوازن بين المحلي والوطني، وتخفيف الثقل على الدولة المركزية، وإرساء معالم الجهوية القائمة على الحكامة الجيدة.

غير أنه هذا الورش يفتقر لمجموعة من المبادئ التي تهم السياسات العامة الاستعجالية وبعيدة المدى، كما أن المؤسسات التنفيذية لابد أن تكون على استعداد لمواجهة أي طارئ، بما فيها الأجهزة التنفيذية على المستوى المحلي المعنية بتدبير الشأن الترابي، وتحتاج إلى اَليات اليقظة والاستباقية والاحترازية في مواجهة الظروف الطارئ والمحتملة، من أجل مواجهة الصدمات الوطنية والدولية من خلال تدابير محلية في لحظاتها الأولى.

أما بخصوص الكوارث الطبيعية، فلابد من جهاز محلي من أجل التدخل السريع، مكون من مختلف الأجهزة، بما فيها الأمن والجيش والإغاثة والصحة، وفق مقاربة شمولية متعددة ومتقاطعة، من أجل التدخل على وجه السرعة، قبل وصول الدعم والإغاثة المركزية وباقي الجهات الترابية، قصد تقليص دائرة التأثير، وتقليص حجم الخسارة متى كانت تحتاج لتدخل الاَني، من أجل مواجهة وامتصاص المخاطر قدر الإمكان.

فعلى سبيل المثال، فسيارة الإسعاف تكون مجهزة في الدول الرائدة بغرفة متنقلة للإنعاش والجراحة، حيث يمكن لفريق الإسعاف أن يبدأ في الجراحة قبل الوصول إلى المستشفى، لأن كل ثانية تقدر بثمن، كذلك يمكن أن تكون الجهة قبل الدولة، وأن يكون دور الدولة للدعم لا الاتكال عليها كليا، فيما يجب أن تكون مجهزة بكافة وسائل التدخل والإغاثة، لا انتظار الإغاثة.

أما بخصوص المخاطر الاقتصادية والاجتماعية، من اللازم تمكين الجهة والجماعة، بالوسائل والأدوات الذاتية، لمواجهة المخاطر الاقتصادية والاجتماعية، من خلال الجاهزية المحلية عبر خلايا للاستنفار والتدخل كما هو الحوال بالنسبة للقرارات المركزية، والتي يبادر إليها جلالة الملك؛ من أجل أن يكون للجماعات دور جوهري في تخفيف حدة التأثير، عبر أجهزة الأزمات والاستنفار وفق مقاربة شمولية بين مختلف الإدارات المحلية، والفاعلين بما فيهم القطاع الخاص والمجتمع المدني.

ويمكن للجماعات الترابية مواجهة المخاطر والكوارث المستقبلية، عبر رصد مالي مخصص للتأمين تلك المخاطر في إطار التضامن بين الجهات، والتقليص من تأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية، وتقديم الدعم المباشر للأشخاص والمقاولات وتعويضهم على الأضرار الجانبية، وتوفير مناطق بديلة للعلاج والإيواء المؤقتة؛ وذلك قصد تخفيف العبء الكلي على الدولة، وتجاوز الصدامات والتصدي لها والتقليل من حدتها، لا الاتكال على الدولة والتضامن ومؤسسات الإحسان، بصرف النظر على أهميتها.

وفي الأخير، هل الفاعل الترابي حاضر في صلب هذه الأوراش وعلى وعي بها؟ وهل هو على دراية بالتحديات التي تنتظره لمواجهة الكوارث الطبيعية؟ وفي مراحل أولية بشكل استعجالي قبل وصول الدعم المركزي، من أجل تخفيف الحدة قدر الإمكان وامتصاص الصدمات الاقتصادية والاجتماعية، خصوصا ونحن على علم بآفة الأمية المستفحلة بين الفاعلين الترابين المنتخبين؛ فعن أي جهوية متقدمة نتحدث ونحن لا نكاد نسمع شيء عن المنتخب الترابي في ظل تنامي الكوارث والأزمات الاقتصادية والاجتماعية العابرة للحدود؟

لذلك فإن إعداد مذكرة من المجلس الاقتصادي والاجتماعي، تتطلب العكوف من أجل تقرير يصب في هذا الاتجاه، نظرا لما يضطلع إليه المجلس في إبداء الرأي حول الاختيارات الكبرى للدولة، في الشق الاقتصادي والتنموي والاجتماعي والبيئي، وطنيا وجهويا، وتقديم اقتراحات في مختلف القضايا من هذا النوع، وإنجاز دراسات وأبحاث ميدانية.

بالإضافة إلى تحليل وتتبع السياسات العمومية ذات الصلة بها، مع تقدير الظروف والانعكاسات الدولية والجهوية والوطنية، ناهيك عن دعم وتيسير الحوار والتعاون من أجل المساهم في إنتاج ميثاق اجتماعي؛ على اعتبار أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مؤسسة دستورية مستقلة، يضطلع مهام الاستشارية في إبداء الرأي حول الاختيارات التنموية الكبرى، والسياسات العمومية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والتنمية المستدامة والجهوية المتقدمة.

فهل يمكن للمجلس أن يقدم جوابا حول ما يلي؛ هل الفاعل الترابي قادر على الصمود أمام الأزمات والكوارث الطبيعية دون الاتكال على الدولة بشكل كلي؟ وما هي نتائج تشخيص قدرات الفاعل الترابي أمام الأزمات والكوارث؟ وهل يمكنه أن يكون مساهما بدل أن يكون متكلا؟ وما هو نطاق تدخله والأسباب التي تحول دون ذلك؟ وكيف يمكنه التدخل لمواجهة الأزمات والكوارث؟ وهل يمتلك القدرات لأجل التدخل أم المطلوب منه هو الصمود لا غير؟ وماذا يقترح المجلس لتعزيز قدرات الفاعل الترابي في الصمود ومواجهة الأزمات والكوارث؟