د.حنين: مشروع قانون مالية 2023 يؤسس لجيل جديد من قوانين المالية

اعتبر المستشار محمد حنين أنه لئن كان القانون المالي السنوي يترجم بالأرقام السياسة الحكومية في المجالات الإقتصادية و الإجتماعية ، فإنه منذ برنامج التقويم الهيكلي في الثمانينات من القرن الماضي ظلت القوانين المالية ببلادنا وفية لهاجس التوازنات المالية ، مما جعلها في مجملها ذات طابع تقني محض و لم تتأثر كثيرا بتغيير الحكومات، و مؤدى ذلك ضعف اللمسة السياسية على اختيارات هذه القوانين.

لكن ، يتبين من خلال القراءة الموضوعية لمشروع قانون مالية2023 ، أن هذا المشروع جاء مختلفا في مضمونه و في توجهاته، مما يجعله متميزا بكل المقاييس عن القوانين السابقة ، فلأول مرة يكون الهاجس الإجتماعي حاضرا بقوة في اختيارات قانون المالية في ارتباط وثيق بأولويات البرنامج الحكومي ، هذه الاولويات التي تتمحور حول بناء الدولة الاجتماعية ، و هو ما يثبت أن مشروع قانون المالية يترجم أولويات السياسة الاجتماعية للحكومة ، هذه الاولويات التي تتجسد في عدة مظاهر على رأسها برنامج التأمين الصحي الاجباري بما يترتب عنه من تكاليف تتجاوز سقف 9 مليار درهم لتحمل تكاليف اشتراك الفئات الهشة و الفقيرة و تمكينها من الاستفادة من التغطية الصحية والولوج إلى العلاج بدون عقبات، و تضاف الى ذلك رزنامة من التدابير ذات الطابع الاجتماعي التي سترى النور لأول مرة فضلا عن التكاليف المرتبطة بنتائج الحوار الاجتماعي و التي تعتبر مظهرا آخر لانفتاح هذا المشروع من خلال حرص الحكومة على الحفاظ على السلم الاجتماعي و الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن عبر آليات مختلفة في ظرفية اقتصادية جد صعبة بكل المقاييس.

و لما كان من الثابت أن مشروع قانون مالية 2023 قد تجاوز عقدة التوازنات المالية من خلال ترجيح التوازنات الاجتماعية و البحث عن وسائل التمويل من خلال منهجية جديدة لتوزيع التكاليف العمومية و الشروع في تنزيل إصلاح ضريبي يروم الالتزام بمعايير العدالة الضريبية ، فإن هذا المشروع يؤسس لجيل جديد من قوانين المالية، يقوم على أساس اختيارات استراتيجية وإصلاحات مهيكلة تعطى فيها الأولوية لتحقيق الأهداف المرسومة عوض الإقتصار على منطق الوسائل الذي ظل مستحكما في تدبير المالية العمومية.

و من المؤكد أن المنهجية الجديدة لإعداد مشروع قانون المالية تثبت على خلاف بعض الانتقادات أن الحكومة تتوفر على تصور متكامل لتدبير الشأن العام وفق مقاربة مغايرة لما سبق، تتسم بالمبادرة و الابتكار و الانفتاح على معالجة القضايا الاجتماعية المعقدة والتي تراكمت عبر سنوات ، و هو ما يثبت أن لهذه الحكومة سياسة اجتماعية متكاملة تقوم على أساس معالجة أعطاب الثالوث الاجتماعي التقليدى من خلال اصلاحات جريئة للتعليم و الصحة و الشغل و المبادرة للانفتاح على معالجة قضايا اجتماعية جديدة ، و هو ما يجعلها جادة في المضي في تقوية دعائم الدولة الاجتماعية.

و بهذا المشروع يمكن التأكيد اليوم على أن الحكومة بفضل اعتمادها لمقاربة جديدة لتدبير المالية العمومية قد تمكنت من التعامل بذكاء وحذر شديد مع إكراهات الظرفية الإقتصادية الموسومة بالضبابية واللايقين والتي تلقي بضلالها على مختلف الحكومات عبر العالم وهي تتولى إعداد ميزانيتها للعام القادم.

أما فيما يتعلق بانتقادات بعض الفئات المهنية لمشروع قانون المالية ، فإن هذه الإنتقادات تنحصر في بعض المقتضيات الضريبية الموجهة لهذه الفئات ، و هي انتقادات عادية و لا تمس بالجوانب الإيجابية لهذا المشروع ، و أعتقد أن الحكومة تفاعلت بإيجابية مع مطالب أغلب هذه الفئات من خلال قبولها لعدد من التعديلات بمجلس النواب ، و من المؤمل أن يتم إثراء هذا المشروع بمجلس المستشارين من خلال قبول تعديلات أخرى لا سيما بعد انفتاح الحكومة على الحوار مع عدة هيئات مهنية .

و من المؤكد أن تحلي جميع الفئات المهنية بروح المواطنة و تفهمها لإكراهات الظرفية الإقتصادية المأزومة من شأنه أن يساهم في التوصل الى تسوية الخلافات العالقة بما يكفل التوازن بين مصالح جميع الفئات المهنية و مصالح الخزينة.