د.ميلود بلقاضي
شكل النموذج التنموي الجديد الذي قدمه بنموسى لصاحب الجلالة وثيقة مرجعية هامة تشخص الوضعيــة الراهنــة للتنميــة بالمملكـة،وثيقة ذات نفس استشرافي، الهدف منها رسم وتحديد معالـم نمـوذج تنمـوي جديـد قادر للدفـع بالمغرب "للتوجـه بـكل ثقـة نحـو المسـتقبل".
وقد تزامن تقديمه لصاحب الجلالة مع سياق دقيق من تاريخ المغرب المعاصر. أولا وضعية اقتصادية واجتماعية صعبة نتيجة جائحة كورونا . ثانيا توتر العلاقات المغربية مع بعض الدول منها اسبانيا المانيا وجنوب افريقيا والجزائر التي هي السبب الرئيس من وراء توتر علاقات المغرب مع هذه الدول.
الإعلان عن النموذج التنموي الجديد افضل رد للدول المعادية لمصالح المغرب: أكيد ان تقديم هذ النموذج التنموي الجديد في هذا الوقت بالذات لم يكن اعتباطيا ، بل انه جاء في سياق دقيق للرد على بعض الدول التي تتحرش بالمغرب. نموذج تنموي ذو تفكيـر ُاسـتراتيجي يركـز علـى إيجـاد الحلول لإشكاليات نسـقية تعتبر السـبب الرئيسـي لتراجـع وتيرة التنميـة, تؤطره مقاربة استشـرافية تراعي تطـورات وتحديات السـياق الوطنـي والدولـي علـى الأمدين المتوسـط والطويـل. نموذج تنمـوي يضـع المواطـن فـي صلـب أولوياتـه ومنسـجم مـع واقـع البـلاد ومتطابـق مـع خصوصياتهـا ومؤهلاتها، ويعمـل علـى "تحديـد الأهداف المرسـومة لـه وروافـد التغييـر المقترحـة وكـذا سـبل تنزيلـه".
وجاء تقديمه في هذا الوقت بالذات للرد على بعض خصوم المغرب وأعدائه ،رد عملي مفاده ان المغرب مستمر في مساره الاصلاحي والتنموي ، وانه ليس له الوقت في تضييع الوقت في الحروب الاعلامية والدبلوماسية ،وان الوقت وقت عمل وهو رد قوي وذكي من طرف رئيس الدولة المغربية على بعض الدول التي تنهج سياسية عدائية اتجاه المغرب.
نموذج تنموي جديد طموح واستراتيجي: يشكل هذا النمـوذج اطارا عاما جديـدا يسـتجيب لحاجيـات المواطنين في تفاعل مع سـياق إقليمي وعالمـي يشـهدان تحولات وإن كانـت مطبوعـة بعـدم اليقيـن، إلا أنهـا تتيـح فرصـا جديـدة.
ويتمحور هــذا النموذج حــول تصــور مســتقبلي وطمــوح مشــتركين، ويرتكــز علــى نهــج للتغييــر لتشكيل أمـة تجتمـع حـول دولـة قويـة وعادلـة بامتدادهـا التاريخـي وبمثانـة مؤسسـاتها وبقدرتهـا علـى تعبئـة الـذكاء الجماعـي، انه نموذج تنموي يشكل رؤية استشرافية لمغرب الغد، انه نموذج مغربي/ مغربي مبني على مقاربة الذكاء الجماعي، يحدد تحديات واكراهات المغرب التنموي المستقبلي.
نموذج تنموي جديد متقدم لنخب ولمؤسسات متخلفة: لا احد يشك في أهمية مرجعيات النموذج التنموي الجديد ، وفي كونه ثورة فكرية ومنهجية في وصف الواقع التنموي الحالي وفي طرح البديل.
لكن ،بالمغرب هناك معطى سوسيولوجي ثابت بين التنظير والممارسة ،وهو ان الدراسات والتقارير تكون دائما متميزة ومتقدمة ومتطورة، لكن المشكل يبقى في عملية الأجرأة والتنزيل على ارض الواقع ، وهنا تبرز أهمية نوعية العنصر البشري كعائق موضوعي، لان من كان جزءا من المشكلة لن يكون جزءا من الحل. لذى اعتقد ان المشروع التنموي الجديد بحاجة لشروط ذاتية وموضوعية لإنزاله ، ونخبا مؤهلة ومؤسسات ديمقراطية لتفعيله ، وبمعنى آخر نجاح النموذج التنموي الجديد بحاجة لنفس جديد وعقليات وبروفيلات جديدة في مستوى مضامين وتحديات النموذج التنموي الجديد.
وفي هذا السياق ، نشير انه سبق ان طالب الملك محمد السادس في احدى خطاباته على أن خلق جيل جديد من المشاريع التنموية يتطلب نخبة جديدة من الكفاءات في مختلف المناصب والمسؤوليات وضخ دماء جديدة على مستوى المؤسسات والهيئات السياسية والاقتصادية والإدارية بما فيها الحكومة. ومن هذا المنطلق، يتضح أن من بين أهم شروط نجاعة ونجاح المشاريع التنموية بالمغرب هي مسألة تجديد النخب القائمة على تسيير وتدبير مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة وعلى أكثر من مستوى، وبالتالي فالحديث عن النموذج التنموي الجديد هو الحديث عن نوعية النخب والكفاءات التي تتطلبها الظرفية الراهنة والمرحلة الجديدة، نخب ومؤسسات بعقليات جديدة مؤهلة للارتقاء بمستوى العمل حكامة وتدبيرا وعلى تحقيق التحول الجوهري. الامر الذي يستدعى وجوب تحديد واستحضار شروط الكفاءة والاستحقاق في انتقاء النخب والمؤسسات التي ستعمل على تنزيل هذا النموذج التنموي الجديد وفق قواعد وأليات الحكامة والتدبير الاستراتيجي والاستشراف، وفق أجندة محددة وفق مفهوم "موريس دوفرجي" الذي يراهن على ضرورة خيار ما أسماه ب التكنوديمقراطية’’démocratie
Techno’’لتحقيق الديمقراطية الاجتماعية وذلك بمنح مشعل التدبير لجيل جديد من التكنوقراط بانتماءات سياسية، وبعقلية تكنوقراطية صرفة قادرة على انتاج الثروات.
وعليه، نعتقد ان مآل النموذج التنموي الجديد يبقى مرتبطا في عمقه بمدى اقتناع الدولة والأحزاب والنقابات بالاستثمار في العنصر البشري،وبمدى وعيها بان نجاح النموذج التنموي يقتضي تغييرا نوعيا للنخب وللمؤسسات القائمة، والانتقال من نخب تقليدية إلى نخب تدبيرية متشبعة بمبادئ حكامة التدبير للسياسات العمومية، ونجاعة الأداء، وروح المسؤولية، والوعي بصعوبة المرحلة لمواكبة معالم النموذج التنموي الجديد الذي تراهن عليه الدولة باعتباره أيضا آلية لتحديث أجهزة الدولة نفسها،وتجديد نخبها.
وأخيرا نقول النموذج التنموي الجديد ليس هدفا بذاته، انه وسيلة يجب ان يشكل في صيغته الجديدة كما جاء في الخطاب الملكي :’’ قاعدة صلبة لانبثاق عقد اجتماعي جديد، ينخرط فيه الجميع: الدولة ومؤسساتها، والقوى الحية للأمة، من قطاع خاص، وهيئات سياسية ونقابية، ومنظمات جمعوية، وعموم المواطنين".
ونتمنى من الأحزاب السياسية ان تعتمد في برامجها الانتخابية على مرجعيات وفلسفة النموذج التنموي كتعاقد سياسي جديد بين الأحزاب والمواطن، وان تعمل على تفعيل شعار النموذج الا وهو تحرير الطاقات واستعادة الثقة لتسريع وتيرة التقدم وتحقيق الرفاه للجميع.
رئيس المرصد المغربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية