تعاقب على الجمهورية الفرنسية الخامسة 8 رؤساء في 59 عامًا، وخلال حكم كل هؤلاء الرؤساء لم تعرف الجمهورية الفرنسية اختناقا أخلاقيا وسياسيا وتراجعا إقليميا ودوليا، وأزمات اجتماعية وفوضى امنية حادة كما عرفها حكم الرئيس الحالي إمانويل ماكرون.
السياق العام الذي أوصل هذا الرئيس للسلطة بفرنسا اعتبره بعض المحللين إنه أكثر مؤشر على أن الجمهورية الفرنسية الخامسة في أزمة بنيوية، وان نهاية هذه الجمهورية بات وشيكا.
تاريخيا ارتبط ظهور الجمهوريات في فرنسا أو تفككها، بأزمات وهزات إجتماعية وسياسية واقتصادية حادة، وعجز مؤسساتها الرئاسية والحكومية والتشريعية الاستجابة لتطلعات الشعب الفرنسي، الامر الذي يفرض عليه اللجوء لخيار بين ثلاث خيارات ممنكة : 1- إما إسقاط النظام السياسي القائم وتغييره بنظام سياسي آخر. 2 – وإما تعديل جوهري للدستور، 3- وإما اسقاط النظام وتغيير الدستور معا.
وحسب تاريخ قيام الجمهوريات بفرنسا منذ قيام الثورة عام 1789، فقد عرفت خمس جمهوريات في محطات حاسمة من تاريخها : 1792 و1848 و1870- 1875، و1946و 1958 المحطة التي شهدت قيام الجمهورية الفرنسية الخامسة الحالية.
جمهوريات حكمها رؤساء عقلاء إلى أن جاء مانويل ماكرون للسلطة سنة (2018)، حيث تزامن وصوله للحكم مع بداية نقاشات بين النخب الفرنسية حول نهاية الجمهورية الخامسة وضرورة الإنتقال إلى جمهورية سادسة، بعد نتائج الإنتخابات التشريعية لسنة 2017 التي أفرزت رئيسا لفرنسا من خارج الأحزاب التقليدية الفرنسية التي تداولت على الحكم في الجمهورية الفرنسية الخامسة هو إمانويل ماكرون.
هذا الرئيس الذي جاء ليحكم فرنسا في ظروف صعبة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في تناقض تام مع فلسفة المؤسس “الجنرال ديغول”، للجمهورية الخامسة الفرنسية الثورية لكونها أسست على القطيعة التامة مع دستور وفلسفة الجمهورية الرابعة (1946- 1958)، ومع فلسفة ممارسات نخبها للتداول على السلطة .
“الجنرال ديغول”، آمن بقيام جمهورية فرنسية قوية بدستور انساني مبني علي فصل السلط ، وبمؤسسة تشريعية معقلنة ،وبقيام احزاب حقيقية تتنافس ديمقراطيا على السلطة وفق انتخابات حرة ونزيهة، وعلى مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة و تمركز جوهر السلطات في مؤسسة الرئاسة،وهذا ما تحقق ما بعد التعديل الدستوري لسنة 1962، حيث أصبح رئيس الجمهورية الفرنسية ينتخب بالاقتراع المباشر من طرف الشعب .
ومنذ ذلك التاريخ تناوب على رئاسة جمهورية فرنسا الأحزاب الفرنسية التقليدية القوية : “الديغوليون”و الجمهوريون والاشتراكيون.لكن التداول على السلطة بالجمهورية الفرنسية بدأت ينحرف عن قواعد الحكم مع ظاهرة “التساكن Cohabitation”، هذه الظاهرة التي شكلت خطرا حقيقيا على قيم ومبادئ دستور 1958، حيث أصبح رئيس الجمهورية منتم لحزب والأغلبية البرلمانية لاحزاب آخرى، نتيجة التغيرات التي شهدها المشهد الحزبي الفرنسي بعد تراجع الأحزاب التقليدية الفرنسية بشكل خطير وظهور أحزاب يمينية ويسارية متطرفة، وأحزاب أخرى لا هي ديغولية أو جمهورية أو اشتراكية كما هو حال القوة الحزبية الحاكمة اليوم بقيادة إمانويل ماكرون ..”الجمهورية إلى الأمام”.
وعليه ، وانطلاقا من المؤشرات التي عرفها المشهد السياسي للجمهورية الفرنسية الخامسة منذ وصول ماكرون للسلطة. وما تشهده فرنسا اليوم من احتجاجات ومن تراجعات في عهد حركة “إيمانويل ماكرون” الجمهورية إلى الأمام، التي ولدت سنة 2016 من خارج الأحزاب السياسية التي تداولت على الحكم بالجمهورية الفرنسية الخامسة، هناك إجماع بين النخب الفرنسية أن الجمهورية الفرنسية الخامسة مريضة جدا ، وأنها تعاني من الموت البطئ، وفرنسا اليوم بحاجة لجمهورية فرنسية سادسة.
ويستدل اصحاب هذا التوجه بعدة مؤشرات أهمها أن الرئيس الفرنسي الحالي لا يمكن تصنيفه لا داخل اليمين ولا داخل اليسار، بل حتى تشكيلة الأغلبية الجديدة في الجمعية الوطنية، التي يعتمد عليها ماكرون للدفاع عن سياسات الحكومة ومؤسسة الرئاسة، يصعب تصنيف اغلبيتها وفق التقاليد المتراكمة خلال عقود حكم الجمهورية الخامسة داخل المؤسسة التشريعية.بل ، إن نتائج اقتراع 2017، أفرزت نخبا برلمانية جديدة تجاوز عددها 432 عضوا جديدا من أصل 577 من العدد الإجمالي لأعضاء الجمعية الوطنية جلهم شباب وليس لهم تراكمات في عالم السياسة والحكم والتدبير والحكامة، وهذا معطى سوسيولوجي مثير ودال لم تشهده أي جمعية وطنية فرنسية بالجمهورية الخامسة من قبل.
كل هذه المعطيات حولت الفضاء الفرنسي العام والمؤسسات الدستورية بفرنسا لعوالم بدون أي طعم فكري او ثقافي عميق، وبلا نقاشات عمومية تجلب الرأي العام الفرنسي، حيث أصبحت المصالح الاقتصادية هي الموجهة لكل شيئ على حساب الصراعات الأيديولوجية والفكرية التي كانت تؤثث الفضاءات العمومية للجمهورية الفرنسية الخامسة، وأمام هذا الواقع الجديد الذي خرج عن فلسفة دستور الجمهورية الخامسة بدأت تبرز شروط انعطاف جديد نحو قيام الجمهورية الفرنسية السادسة.
إضافة لقرارات الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون الحالي التي لا تتمتع بأي دعم شعبي كقراره برفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 وما نتج عنها من إضرابات وأعمال تخريب والاشتباكات مع شرطة مكافحة الشغب امتدت لاكثر من نحو شهرين.
قرار انفرادي لماكرون لم يستشر فيه أحدا حتى أعضاء حركته بالجمعية العمومية مفضلا الإستناد على استخدام الفقرة الثالثة من المادة التاسعة والأربعين من الدستور (49.3) التي تتيح تنفيذ القرارات الرئاسيّة بموجب مرسوم تنفيذيّ. لجوء ماكرون لهذه المادّة يضخّم التصوّر بأنّه رئيس لا يقيم وزناً لرأي الشعب الفرنسي ولقواه الحية.
وحسب المركز الفرنسي للأبحاث العلمية، فقواعد اللعبة الفرنسية بالجمهورية الفرنسية الخامسة تكاد تتقوّض وتنهار اليوم، ونخبها وأحزابها ومؤسساتها السياسية تحتضر بشكل رهيب، وموازين القوي السياسية مختلة بالجمهورية الخامسة، وخير دليل قرب وصول اليمين المتطرف إلى قصر الإيليزيه،بعد مرور مارين لوبان للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.
الأوضاع الحالية بفرنسا اليوم تذكرنا بالأوضاع العامة التي كانت وراء إحداث تغييرات جوهرية في طبيعة نظام الحكم عام 1958، في ما يعرف بـ«الجمهورية الخامسة»،فهي تكاد تقارب من حيث الأجواء العامة ما يحدث الآن من فوضى وارتباك وتمردات ومواجهات عنيفة وهجومات علي الممتلكات العمومية وغياب أيّ قواعد تضمن سلامة الأداء العام.
الأوضاع العامة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تمر بها الجمهورية الفرنسية الخامسة في عهد ماكرون اليوم تدل على استنزاف الجمهورية الخامسة أسباب وجودها بالقرب من تأسيس نظام دولي جديد تلوح ضروراته ومقدماته في الحرب الأوكرانية، وتمرد أنظمة القارة الإفريقية على ماكرون ودخول فرنسا في وضعية صعبة بعد قتل الشباب الجزائري والذي حول فرنسا لجحيم من نار سيضطر معها ماكرون فرض حالة الطوارئ.
إنها أزمة مؤسسة «الجمهورية الخامسة» نفسها! إنها أزمة قيم وحكامة ونخب وتدبير وسياسات، وأزمة مؤسسات رئاسية وتشريعية وأمنية وحكومية لم تعد قادرة الاستجابة لمتطلبات شعب فرنسا بعد انتهاء صلاحيات ومبادئ وفلسفة دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة… إنها فرنسا المختنقة اليوم والتي تتصارع من أجل الخروج من الجمهورية الخامسة نحو الجمهورية السادسة، لكن بتكلفة باهظة اذا ما استمر الرئيس الحالي الفرنسي مانويل ماكرون في حكمه بنرجسية مفرطة، وفي تدبير شوون جمهورية فرنسا بعيدا عن الالتزام بالقيم والمبادئ الجمهورية التي اسقطت انظمة سياسية وغيرت دساتير بفرنسا.
إلى أي مدى يصح أن سبب “مرض” أوروبا سببه فرنسا وسياساتها التاريخية المستمرة في بث الفوضى تحت شعارات مبادئ حقوق الإنسان التي تخلت وتنكرت لها حين احتلت وانغمست في ثروات شعوب الجنوب والشرق الأوسط، وخدمت مصالحها الأنانية والرعناء وهي ابعد من تلك المبادئ بالامس واليوم وعن الأخلاق كمبادئ إنسانية فطرية، حين طبعت مع الشذوذ بكل تلوناته ومنه الجنسي الذي خصصت له وزيرا يعنى بموضوعه، وتعمل على فرضه على باقي دول أوروبا بمن فيها التي لازالت تقاوم من خلال الكنائس التي لازالت تطلع بأدوار في تخليق المجتمع؟.. فهل حان الوقت لأن تتخلص أوروبا من ما أثقلته به فرنسا وتوجهاتها، مستفيدة مما تعتبره دينا في رقبة ألمانيا الممول الرئيسي للاتحاد وكذا باقي الدول كل بقدر متناسب وما تعتبره فرنسا صاحبة فضل فيه عليهم.. ففرنسا تعتبر نفسها مركز اوروبا وتعمل للبقاء كذلك بإخضاع الكل لنزواتها؟
اما محاولاتها لتصريف ازماتها من خلال المهاجرين فمرده محاولات يائسة لا محالة للتخلص من اشباح الماضي التي لازالت وستبقى تلاحقها.. فهي من تاريخها وحاضرها ومستقبلها.. فأبناء الهجرة أصحاب حق في بلادهم فرنسا بل أوروبا.. ولا معنى للتنكر لهم.. فكيف يتكلم المتكلمون في cnews وBFM عن الفرنسيين بشكل فئوي، فبالنسبة لهم كل من اصله غير فرنسا او اوروبا فهو مصنف من فئه “هم”.. حتى المتحدثين من اصول جزائرية ومصرية ممن اصبحوا أكثر فرنسيين من الفرنسيين الأصليين.. المغرب دولة حليفة لفرنسا، ومريد لحلفائنا العافية إن كانوا فعلا كذلك.. إذ بالتأكيد سيعملون معنا على تقوية موقعنا واستقلاليتنا بكل شفافية ووضوح.. والمغرب دائما في الموعد عند الحاجة.. يبقى السؤال للحلفاء عن مدى جاهزيتهم مع المغرب عند الحاجة