"الحملة الانتخابية السابقة لأوانها": مفهوم يُؤسّس لقمع الأحزاب السياسية الجادة

في كل مرحلة سياسية، يطفو على السطح ما يُسمى بـ"الحملة الانتخابية السابقة لأوانها"، كمفهوم يُستعمل دون ضبط قانوني، لكنه يتحول في الممارسة إلى أداة جاهزة تُشهر في وجه الأحزاب التي تشتغل بجدية في الميدان، وتبني علاقة يومية مع المواطنات والمواطنين. والخطير هو أن هذا المفهوم يُؤسس شيئًا فشيئًا لقمع ممنهج للأحزاب الجادة، ويُطبع في الوعي السياسي كأداة "مشروعة" لتبرير المنع والتضييق. والخطورة أن هذا السلاح قد يُوجَّه في المستقبل ضد أي فاعل حزبي وطني يختار طريق العمل الميداني والتأطير الفعلي.
ورغم أن بعض الأحزاب فعلاً تنخرط في أنشطة طابعها ترويجي انتخابي، فإن ما تقوم به لا يمكن وصفه إلا بالعبث الفلكلوري البئيس: كأن تشتري "الملحفة" و"الدراعية" وتوزعها على الناس لاستدرار العطف والتأييد، أو تنظم تجمعات تُشحن بالحافلات ومن خلال شراء الذمم، في مشهد يُسيء إلى ذكاء المواطن وإلى صورة السياسة ذاتها. أو كما تفعل بعض القيادات التي تتستر بقناع "العمل التطوعي" فتغرق أحزابها في مبادرات شكلية كتوزيع القفف، وكأن الأحزاب جمعية خيرية. هذه الانحرافات الخطيرة تحول العمل الحزبي إلى مهرجان للتمويه السياسي، بعيدًا تمامًا عن أي مشروع سياسي حقيقي أو تصور لتغيير السياسات العامة، ويشوه جوهر العمل السياسي إلى مستوى نشاطات سطحية لا تليق بأحزاب عُرفت بمبادئها وجديتها السياسية عند تأسيسها.
غير أن الخطير ليس هذه الممارسات التي تُفضَح من تلقاء ذاتها، بل أن تُستعمل كذريعة جاهزة لتأثيث المشروعية المفترضة لهذا المفهوم، الذي يُؤسّس تدريجيًا لقمع الأحزاب، بدل التركيز على من يستغل مشاعر الناس واحتياجاتهم في حملات دعائية واضحة، تُوجَّه التهمة إلى كل من يتحرك في الميدان، ويعقد ندوة، أو ينظم لقاءً تواصليًا، أو يحاور المواطنين حول القضايا الكبرى للوطن.
وفي هذا السياق، نتابع كيف تُمنع أحزاب سياسية من ولوج القاعات العمومية تحت ذريعة هذا المفهوم الفضفاض. لكن المثير للسخرية، أن بعض هذه الأحزاب، عوض أن تدافع بصلابة عن حقها المشروع في التواصل والتأطير، تنخرط في لعب دور "الضحية"، وتُسوّق صورة القمع وكأنها شهادة نضال، بينما المطلوب منها أن تتمسك بحقها الكامل دون أن تبني رأسمالها الرمزي على المنع فقط، بل على الصمود السياسي الفعلي، والترافع القانوني والميداني.
ومن الضروري أيضاً أن ننتبه كفاعلين سياسيين، لتبعاث استخدام مفهوم "الحملة الانتخابية السابقة لأوانها" كوصف لما يقوم به الخصوم، لأن ذلك لا يقتصر على الوصف، بل يؤسس بشكل غير مباشر لقمع الجميع، ويضعف مناخ العمل السياسي الحر والمنفتح. فاستعمال هذا المفهوم كوصف سياسي يُسرّع من إفراغ الفعل الحزبي من جوهره، ويُشجع على تفاقم التضييق، مما يجعل الجميع، في نهاية المطاف، ضحايا لهذا المفهوم.
فالتأسيس له لا يعدو أن يكون "تخربيقًا سياسيًا مفضوحًا"، وأقرب إلى عبث لغوي يُستعمل لإضفاء الشرعية على المنع، وتحويله إلى أداة تضييق ممنهجة. هو في حقيقته مجهود "بحال اللي كيحرث فالبحر": لا يُنتج، ولا يُؤسس إلا لمزيد من العبث المؤسساتي، حيث يغيب القانون ويُستبدل بالهوى والتأويل المزاجي.
القوانين الانتخابية المغربية بمختلفها، تنظم الحملة الانتخابية وحدودها، وتمنع الترويج لأسماء ورموز المرشحين خارج فترتها، لكنها لا تُجرّم التأطير السياسي المنتظم، بل يُلزِم الفصل السابع من الدستور الأحزاب بذلك، باعتباره من صلب مهامها الأساسية.
إن الترويج لمفهوم "الحملة الانتخابية السابقة لأوانها" ، يُؤسس بشكل متدرج لبيئة قمعية تُفرغ السياسة من مضمونها الحقيقي، ويُشرعن لتجريم العمل السياسي خارج فترة الانتخابات، ويُحول السياسة إلى نشاط موسمي، ويُقصي كل فاعل حزبي يسعى لبناء وعي نقدي وتواصل دائم مع المجتمع.
هذا المفهوم، لا ينبغي أن يُمنح أي شرعية أو دور في تنظيم الحياة السياسية، لأنه في جوهره ليس إلا آلية سلطوية مُقنعة تُؤسس لقمع الأحزاب الجادة. ومن الواجب فضحه وتفكيكه، لأنه لا يُنتج إلا المنع والتضييق، ويُكرّس منطقًا يُفرغ الفعل الحزبي من مضمونه، ويُحول السياسة إلى مشهد موسمي محكوم بالشك والمنع والرقابة.
الديمقراطية لا تُبنى بالتحذيرات المبطنة والمنع تحت ذرائع مبهمة، بل تُبنى بالحق في التنظيم، في التعبير، في التأطير، وفي التنافس النزيه والعلني.
يونس أكرشال