أفرز مرور رشيد الطالبي العلمي بالمؤسسة الفقيه التطواني الجمعة الماضية عدة معطيات حول هذه الشخصية المثيرة للجدل، ونحاول في هذا المقال التحليلي الوقوف عند أهم هذه المعطيات:
سياق خرجة الطالبي
تؤكد نظريات علم السياسة أن توقيت خروج الفاعل السياسي للتواصل مع الرأي العام حول أي موضوع، ومع أي وسيلة من وسائل الإعلام، ليس بالأمر الاعتباطي، بل هو اختيار براغماتي مدروس ومخطط له. وهذا ما ينطبق على خرجة العلمي الطالبي الجمعة الماضي التي اختار لها توقيتا دقيقا لوضع النقط على الحروف حول عدد من القضايا الوطنية التي تشغل الرأي العام.
الخرجة وضحت أكثر معدن الرجل:
من حضر أو تابع حوار الطالبي مع بعض وسائل الإعلام التي حاورت الطالبي سيخرج بقناعة مفادها أن الرجل يعد من الفاعلين السياسيين القلائل الذين يمتلكون أربع سلط: دستورية، قانونية، سياسية وتواصلية داخل حزب التجمع الوطني للأحرار وفي السوق السياسي المغربي.
هذه السلط الأربع بدت بارزة في هذا اللقاء، حيث توفق بشكل كبير في توظيفها في أجوبته على الصحافيين بكيفية ذكية وبخلفية تاريخية براغماتية.
خرجة الطالبي والنقاش العمومي الرفيع:
أفرزت خرجة الطالبي بمؤسسة الفقيه التطواني نقاشا عموميا من المستوى الرفيع، ما أحوج البلاد إليه في زمن هيمنت فيه التفاهة والرداءة والسطحية، وهيمنت فيه نقاشات حياة الأشخاص أكثر من مناقشة الأفكار. توفق الطالبي في الرد على أسئلة الصحافيين والتعليق عليها برزانة وعمق وأريحية جسدت نوعية المرجعية الثقافية والمعرفة السياسية للرجل، مرجعية ثقافية عميقة تداخلت فيها الأبعاد التاريخية والدستورية والقانونية والسياسية، جسدت نوعية النخب السياسية التي ينتمي إليها رشيد الطالبي العلمي، والمعرفة السياسية الشاملة التي يتمتع بها الرجل كقارئ جيد ومتابع دقيق لما ينشر في عالم العلوم السياسية وما يدور في فلكها.
الطالبي فاعل سياسي مالك لخطاب سياسي متين:
أكد الطالبي بأنه سياسي يمتلك خطابا سياسيا بالمعنى الدقيق للمفهوم، مرجعياته العامة أن الصراع والتدافع واختلاف المواقف في عالم السياسة هو جوهر العمل السياسي، والتدافع فيه هو ما يميزه، وهذه قاعدة عامة تؤطر مجال السياسة منذ أفلاطون إلى اليوم، لأنه لا يمكن تصور سياسة أو عالما سياسيا دون خلافات، ودون تدافع وصراع ومناورات. لذلك تعتبر العلوم السياسية أن التدافع والصراع في عالم السياسة هما من الأمور الطبيعية لكونهما جزء من النقاش السياسي، لأن اختلاف الفاعلين السياسيين حول تدبير السياسات العمومية هو ما يعطي للسياسة معنى وجاذبية، إلا أن هذا الصراع والتدافع بين الفاعلين السياسيين يجب أن يكون مؤطرا بأخلاق وبقيم علم السياسة وبالمسؤولية المواطنة.
دبر رشيد الطالبي العلمي في لقائه النقاش بحس سياسي رفيع، وبلغة مضبوطة ومسؤولة أفرزت خطابا سياسيا مقنعا ومسؤولا بعيدا عن الطيش السياسي، أنتج معرفة سياسية جديدة قد نختلف أو نتفق معها، خطابا سياسيا بعيدا عن توزيع الاتهامات والألقاب القدحية والأوصاف المشينة التي لا تليق بأي مسؤول سياسي. لأن السياسة المسؤولة تفرض على أي مسؤول سياسي أن يترافع عن أفكاره ومواقفه بوعي سياسي مسؤول وبكل شجاعة، ويتفاعل مع محاور النقاش بكل جرأة، ليس بالضرورة أن ترضي الجميع.
ظهر رشيد الطالبي العلمي في خرجته السابقة الذكر كصاحب مشروع سياسي متكامل مبني على أسس صلبة ومتينة، يدافع عنه بقناعة لكن دون فرضه على أحد. جسد خطابه نوعية ثقافته السياسية المتشبعة بالتدافع وبالصراع والمجادلة، لكنها في نفس الوقت ملتزمة بروح القيم الديمقراطية وبالمبادئ الأصيلة للنقاش العمومي المسؤول، تعكس عمق تفكيره وحكمة تدبيره للاختلاف. لذلك،ليكون الفاعل السياسي مؤثرا ومقنعا، عليه أن يكون متمكنا من أدوات النقاش العمومي،ومن تقنيات التواصل المؤسساتي، ومن مرجعياته الدستورية والقانونية والسياسية والتواصلية، ومتشعبا بثقافة بتدبير الاختلاف ومحترما له.
الطالبي وتواصل الوضوح والجرأة في وضع النقط على الحروف:
استغل الطالبي العلمي هذا اللقاء ليوضح كثيرا من الأمور الرمادية المرتبطة بكثير من الجرأة والوضوح، نذكر أهمها:
التهرب الضريبي: أوضح الطالبي أن بعض أحزاب المعارضة السابقة كانت وراء تسريب هذا الخبر في إطار التدافع السياسي في سياق ما، ومؤكدا بأن من يملك الدليل والبرهان على ما يشاع حول الموضوع عليه اللجوء للقضاء، وبأن أجهزة الدولة تعرف من هو الطالبي.
إصلاح واجهة البرلمان: أوضح الطالبي بأن توقيع العقد مع الشركة التي ستقوم بهذه المهمة تمت وفق الشروط القانونية، وبأنه لا يحضر قط عملية فتح أظرفة الشركات المتنافسة على المشروع.
علاقاته مع بنكيران: ميز الطالبي في رده بين خلافه التدبيري والتواصلي لبنكيران، وبين بنكيران رئيس حكومة المملكة المغربية، كونه يشكل محطة من محطات التجارب الحكومية المغربية، وعليه فهو يحترم محطة بنكيران لأنه كان رئيس حكومة صاحب الجلالة، أما الباقي فلا يهمه.
خلاف قادة الأغلبية الحكومية حول استيراد الأغنام وعلاقته بتبذير المال العام: صحح الطالبي الأرقام المتداولة حول الموضوع المتعلقة بالغلاف المالي وهو 300 مليون درهم وليس مليار و 300 مليون، وبأن المستفيدين هم 100 وليس 18 مستفيدا لاستيراد الأغنام، وبأن تصريح نزار بركة حول الموضوع كان بصفته الحزبية كأمين عام لحزب الاستقلال وليس كوزير بالحكومة.
تسابق وصراع أحزاب الأغلبية الحكومية حول قيادة حكومة المونديال: شدد الطالبي على أحقية كل حزب في التعبير عن إرادته في قيادة الحكومة المقبلة، وهذا أمر طبيعي ما دام أن التدافع حول السلطة هو روح العمل السياسي. لكنه ركز أن الأساسي هو التزام قادة أحزاب الأغلبية الحكومية بمبادئ ميثاق الأغلبية الحكومية بالقرارات التي تتخذ، وهذا هو المهم، أما الخلافات الأخرى فهي عادية ومشروعة.
قضية ريم شباط وموضوع تقديمها أمام لجنة الأخلاق: اعتبر الطالبي بأن هذا الملف قد طوي، وإذا كان هناك تقصير من جانبه فإنه يعتذر.
موضوع انسحاب أحد مكونات المعارضة من الجلسة: بكل شجاعة وضع الطالبي هذا الموضوع الذي أثار الكثير من المداد في سياقه انطلاقا من الفصل العاشر من الدستور الذي جعل المعارضة مكونا من الجلسة إلى جانب الرئاسة والحكومة والأغلبية، وعليه اعتبر انسحاب أحد مكونات المعارضة من الجلسة هو خرق دستوري، وراسل المحكمة الدستورية لكنها لم تجب عليه، لذلك قرر إدخالها في النظام الداخلي، لكي لا يبقى هناك فراغ قانوني حول الموضوع.
الطالبي والدبلوماسية البرلمانية: دافع راشيد الطالبي العلمي علي حصيلة البرلمان الايجابية في المجال الدبلوماسي انطلاقا من خطب صاحب الجلالة التي تشيد بايجابيات الدبلوماسية البرلمانية.
وقد برهن على فعالية هذه الدبلوماسية من خلال تحديد معالم منهجية دقيقة للدفاع عن الوحدة الترابية تتمثل في تصنيف الدول لاربع اصناف:
دول معترفة بالسيادة المغربية علي صحرائه
دول مؤيدة لمشروع الحكم الذاتي
دول متشبثة بالمسار الاممي
دول معترفة بالكيان الوهمي
واهداف منهجية الدبلوماسية البرلمانية حسب الطالبي هو اقناع دول الصنف الرابع والثالث للتحول اما لصنف الدول الاولى او صنف الدول الثانية.
مضيفا بأن جل الدول الكثيرة التي زارها نقدر جلالة الملك وتحترم المملكة المغربية وتشيد بالنموذج المغربي الديمقراطي والاصلاحي والتنموي.
وعليه نقول، هذا ليس دفاعا عن رشيد الطالبي العلمي، لكنه مجرد رأي هدفه إغناء النقاش حول خرجته الأخيرة التي أكدت أن الرجل من رجال الدولة الكبار، ومن القادة السياسيين المحنكين، لكونه على الأقل تتوفر فيه مهارات الفاعل السياسي الحديث وهي: الميكيافيلية، التفكير الاستراتيجي، التواصل المؤسساتي، الإقناع والجاذبية، والمعرفة السياسية العميقة في أبعادها التاريخية والدستورية والقانونية والسياسية والتواصلية والخطابية، في زمن سياسي رديئ يتهافت فيه اشباه السياسيين الامر الذي جعل المواطن يطلق السياسة وما يدور في فلكها .