على المرء دائمًا وأبدًا أن يكون حذرًا من أن يكون مستهلكًا للخبر، ولِما يُقال له، ولِما يُراد له أن يقوله، حتى لا يأكل أحدٌ الثوم بفمه. إنه اغتصابٌ فكريٌّ محض للمتلقي، يمارسه صنّاع محترفون في البهتان والتحوير وتزوير الحقيقة، مستغلين في ذلك حنقَ وغضبَ البعض، وجهلَ وسذاجةَ البعض الآخر.
على المرء الباحث عن الحقيقة، إن كانت نيّته معرفةَ الحقيقة (ولماذا شرط النية؟ لأنها أهم ما في موضوع “الحقيقة”، فنيّة معرفة الحقيقة ليست هي نيّة سماع ما تريد سماعه بالضرورة، أو البحث عن ما تريد أنت من المتكلم أو من المشهد قوله، وليست أيضًا نيّة انتظار أو تصيّد زلة أو خطأ الآخر).
قلنا إن على المرء دائمًا أن يُميز بين شيئين أساسيين:
يجب التمييز بين من يقول الحقيقة كلَّ الحقيقة بتجرّد تام من كينونته وانتمائه ورغبته، وبين من يستدعي
جزءًا فقط من الحقيقة لينتقل بها إلى مربع التضليل والتزييف، ليصطادك كغنيمة، يمارس عليك البهتان والتضليل، ويستبيح فكرك ولسانك لتنقل عنه — بوعي أو بغير وعي — ما يريدك قوله، وما يريد هو قوله بلسانك.
الحقيقة الأولى: أن الوصلة الإشهارية لبرنامج القناة الثانية قدّمت السيد نزار بركة بصفته أمينًا عامًا للحزب، وليس كوزير.
الحقيقة الثانية: أن المشهد السمعي البصري الرسمي تحكمه ضوابط قانونية، تلعب فيها “الهاكا” دور المنظم
والضابط، حتى لا تتغوّل جهة على أخرى. فالهاكا تضبط حصة كل مؤسسة سياسية من هذا المشهد، بحيث توازن بين الحكومة والمعارضة من جهة، ومن جهة أخرى تمنح حصة لكل حزب من الأحزاب الوطنية وفق مقاربة محكمة، حتى لا يُغبن حزب ولا يتغوّل حزب آخر.
الحقيقة الثالثة: في بداية البرنامج، قام الصحفي المقتدر جامع كولحسن، مقدم البرنامج، بخطأ بسيط عند تقديمه للضيوف، إذ قدّم نزار بركة بصفته الوزارية، وكان عليه أن يقدمه بصفته الحزبية، لأن الدعوة تخص مؤسسة
حزبية لا حكومية، ووفق الحصة التي تخصصها الهاكا للأحزاب، لا تلك الخاصة بالحكومة والمعارضة. وقد انتبه الصحفي للأمر، فصحح التقديم، ومرت المسألة بسلاسة وبدون أي تعقيب.
الحقيقة الرابعة: أن نجاح البرنامج واستيعابه لكل الأفكار دون حواجز — أقول دون حواجز — سواء من طرف الشباب الذي قال ما يريد، أو من طرف نزار بركة الذي أجاب بصراحة مطلقة منذ أول سؤال، حيث قال إن الحكومة تتحمل كامل المسؤولية بعد دستور 2011، ومن خلالها أجاب عن كل
الأسئلة المتعلقة بالحكومة وبرامجها، بل وأكد أنه كوزير مستعد لتقديم الحساب حول وزارته اليوم، وأنه لم يتهرب من أي سؤال يتعلق بالحكومة.
الحقيقة الخامسة: أول من التقط وتطرق إلى نقطة تجرد نزار بركة من صفته الوزارية بعد نهاية البرنامج كان صحافيان اثنان:
الأول رضوان الرمضاني، والثاني دافقير، الذي فضحته كلماته حين أظهر أنه كان ينتظر من نزار بركة الدفاع عن وهبي وأخنوش كأشخاص، عوض الدفاع عن الحكومة وبرامجها.
الحقيقة السادسة: نزار بركة هو الضمير الحي داخل الحكومة، وهو ما لم يستطع بعض أقطابها تقبّله.
نزار بركة هو أول من فضح “الفراقشية”، وأول من اعترف وأعلن استحالة إحداث مليون منصب شغل، وهو ما أغضب أخنوش الذي لا يزال متشبثًا بها رغم استحالتها، منتظرًا موسم جني الزيتون ليصل إلى “المليون” كما أعلن.
نزار بركة هدد بترك الحكومة إذا تم المسّ بمفهوم الإرث وفق المقاربة الإسلامية، الأمر الذي أغضب وهبي ودفعه إلى القول إن هناك مكوِّنًا حكوميًّا يعرقل مشروعه لضرب قيم
المغاربة.
نزار بركة هو منقذ نصف المغاربة من العطش عبر المشروع الملكي للطريق السيار المائي الذي أشرف عليه شخصيًا، ولم يأخذ إجازته السنوية حتى استكمله. وعند اكتماله، وقع أخنوش على عطلة نزار السنوية، ثم ذهب لافتتاح المشروع وحده دون المكلف به.
بعد هذه الحقائق التي لا يستطيع أحد تفنيدها، دعونا نتحدث عما وراء الصور والأفعال، ولنطرح بعض الأسئلة:
ماذا لو لم يستجب نزار بركة لدعوة
البرنامج، ورفض مواجهة الشباب؟! وترك أحد أعضاء حزبه يمرر خطاب الحزب أسوةً بمن معه من زعماء الأغلبية؟
وماذا كان سيخسر نزار بركة لو تفادى الظهور كأول زعيم حزبي من الأغلبية يخاطب شبابًا متسلحين بكل الأسئلة الممكنة وغير الممكنة؟
ما حصل هو أن نزار بركة حضر البرنامج بشجاعة مطلقة حتى قبل بدايته.
يكفي أنه قبل الدعوة، ثم حاصره الشباب بأسئلة ملحّة حول الحكومة
ومشاكل المغرب، فأجاب بصراحة مطلقة، واعترف بأخطاء لم يرتكبها هو، بل ارتكبتها الحكومة، ومع ذلك تحمّل المسؤولية.
وفي ورش الصحة مثلاً، قال: «أخطأنا في توفير الوسائل والتجهيزات دون توفير الكوادر الطبية»، وقدم القرارات المتاحة الآن لتصحيح الاختلالات، وعبّر عن استعداده لتقديم الحساب عن تدبير وزارته.
الذي لم يدركه الكثيرون هو أن نزار بركة لم يُقسِّم الأغلبية ولم يهرب من الحكومة، بل الذي قسم الأغلبية هو تفوقه عليها ورفعه سقف التحدي في
الحوار مع الشباب، وجرأته في دفع الفاتورة وتقديم الحساب، ورفضه الدفاع عن الأشخاص أو البرامج الفاشلة، مع امتلاكه القوة للاعتراف بالأخطاء وتقديم البدائل والحلول بتفرّد وابتكار.
نزار بركة الذي اتهمه البعض بالهروب من الحكومة، الحقيقة عكس ذلك تمامًا، فالحكومة هي التي تهرب من نزار بركة، لأنه اصطف إلى جانب خيار تحمّل المسؤولية، ومحاورة الشباب، وتقديم الحساب لهم، والإجابة عن تطلعات الشعب، والاعتراف بالأخطاء وتقديم الحلول.
ولعمري، إن لم يكن هذا هو الفعل الحكومي، فما هو الفعل الحكومي إذًا؟!
ولهذا السبب، فإن مجموعة من الذين يمتهنون الدفاع عن الحكومة — وهم بالمناسبة محترفون ومتمرّسون جدًا في هذا المجال — لم يرقهم ما حدث، لأنهم كانوا ينتظرون سقوط نزار بركة، أو على الأقل اندحاره وسط جوقة الشباب، منتظرين منه الدفاع عن الأشخاص، خصوصًا أولياء نعمتهم.
لكن الذي وقع عكس توقعاتهم، إذ صار اليوم لزامًا على زعماء الحكومة الحديث إلى الشباب كما فعل نزار بركة.
وبناءً على هذا المعطى، لم يكن أمامهم من خيار سوى استدعاء الخطة المعتادة: تحوير الحقائق، وفق المقاربة التي قدمنا في أول المقال و هي استدعاء جزء فقط من الحقيقة و الانتقال بها إلى مربع التضليل والتزييف، ليصطاد المتلقي كغنيمة، يمارس عليك البهتان والتضليل، ويستبيح فكرها ولسانها لتنقل عنه — بوعي أو بغير وعي — ما يريد قوله هو، وما يريد قوله بلسانك.
و النتيجة اللعب بعقول الناس لإظهاره كمتمرد على الحكومة.
والحقيقة أن نزار بركة هو وجه
الحكومة الحقيقي أو الذي يجب ان تكون عليه، في جرأته ومواجهته وإجاباته وتقديم حسابه، وهو أيضًا صوت الش
عب داخل الحكومة في شجبه ودفاعه عن قيمه ومقدراته وخدمته.
أيوب مشموم