قراءة في اسقاط المحكمة الدستورية لمجموعة من المقتضيات القانونية في مشروع قانون المسطرة المدنية
خالد الوالي العلمي -استاذ جامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة سيدي محمد ابن عبد الله بفاس
كما هو معلوم ولا يخفى على رجال القانون صادقت الأغلبية البرلمانية الحكومية في مجلسي البرلمان، على مشروع قانون المسطرة المدنية، رقم 02.23 الذي جاء في 644 مادة موزعة على احد عشرة قسما، صادق عليها مجلس النواب بتاريخ 17 يونيو 2025 وكان اخرها مصادقة مجلس المستشارين يوم الثلاثاء 8 يوليوز 2025، في جلسة عامة، معلنًا بذلك عن استكمال المسار التشريعي لهذا النص القانوني، الذي يعتبر ورشا اصلاحيا هاما وإحدى الركائز الأساسية في ورش تحديث الترسانة القانونية للمملكة، وضمان ولوج المواطنين إلى العدالة في ظروف أكثر عدلاً وشفافية.
غير ان هذه المصادقة واكبتها مجموعة من الانتقادات اثارت جدلا ونقاشا واسعا حول العديد من مقتضيات ومضامين مشروع قانون المسطرة المدنية، والتي عجلت بإسقاطه مبكرا عقب إحالة بيضاء من رئاسة مجلس النواب على المحكمة الدستورية قصد التحقق من مدى دستورية النص برمته، حيث أسقطت المحكمة الدستورية عدد من المقتضيات القانونية استجابة للتحفظات التي أثارتها مكونات من المعارضة البرلمانية، مدعومة برأي عام من طرف الفقه القانوني والمهني وحقوقي وباحثين ومهتمين، حذروا من خطورة عدد من المواد على استقلال القضاء والحق في المحاكمة العادلة، حيث يعيد هذا القرار إلى الواجهة جدلية صناعة التشريع في ظل الأغلبية الحكومية، ويؤكد الحاجة الملحة إلى نصوص دقيقة تحترم التوازن بين السلط وضمانات المحاكمة العادلة، خاصة في ما يتعلق بالقوانين الإجرائية التي تمثل العمود الفقري للعدالة، ويُنتظر أن يُطلق هذا القرار حوارًا مؤسساتيًا وتشريعيًا جديدًا حول جودة القانون وأدوار الرقابة الدستورية والتفاعل المؤسساتي الرشيد، بما يعيد الاعتبار لروح الدستور ويحمي ثقة المجتمع في دولة المؤسسات.
يتضح وبعد الاطلاع على قرار المحكمة الدستورية ملف عدد 25/303 قرار رقم 25/255 م.د الصادر بتاريخ 31 يوليوز 2025 والذي جاء متماهيا مع منطوق الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور، الذي تتحدث عن اختصاص المحكمة الدستورية والتي تنص على انه : ” يمكن للملك، كذا لكل من رئيس مجلس الحكومة، او رئيس مجلس النواب، او لرئيس مجلس المستشارين، او خمس اعضاء مجلس النواب، او اربعين عضوا من اعضاء مجلس المستشارين آن يحيلوا القوانين قبل اصدار الامر بتنفيذها، الى المحكمة الدستورية لتبث في مطابقتها للدستور ”
وتأسيسا على ذلك اكدت المحكمة الدستورية ما يلي :
اولا: من حيث الاجراءات التشريعية المتبعة لإقرار القانون المحال على المحكمة الدستورية اكدت في رأيها ان التعديلات من حيث موضوعها ونطاقها وكيفية التداول في التصويت عليها، قد تقيدت بالأحكام الدستورية المقررة لممارسة حق التعديل ، مما تكون معه اجراءات اقرار القانون المحال عليها مطابقة لأحكام الفصول 92 و 83 و84 و85 و 86 من الدستور.
ثانيا: من حيث الموضوع قضت بعدم دستورية بعض المواد التي جاء بها مشروع قانون المسطرة المدنية مستحضرة الصيغة النهائية التي صادق عليها مجلس المستشارين والتي اعتبرتها المحكمة غير مطابقة للدستور ومخالفة لأحكامه ومن بين هذه المقتضيات :
المادة 7 الفقرة الثانية التي فرضت أجلًا ضيقًا لتقديم المقال الافتتاحي، وهو الإجراء الذي يمكن أن يحرم المتقاضين من فرصة كافية لإعداد دفاعهم، خصوصًا في حالات معقدة تتطلب وقتًا للتحضير، مما يعد تقييدًا فعليًا للولوج إلى العدالة. أما المادة 19 الفقرة الأخيرة فسمحت للمحكمة برفض الطلب دون أن تلزم بتعليل هذا الرفض، وهو ما يخالف المبدأ الدستوري الخاص بتعليل الأحكام والقرارات القضائية، وهو أساس ضروري لضمان الشفافية والحق في الطعن في القرار.
في شأن المادة 17 الفقرة الاولى التي تنص على انه ” يمكن للنيابة العامة المختصة وان لم تكن طرفا في الدعوى ودون التقيد بآجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة، ان تطلب التصريح بكل مقر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام داخل اجل 5 سنوات من تاريخ صيرورة المقرر القضائي حائز لقوة الشيء المقضي به”
وتبعا لذلك تكون المقتضيات المعروضة في الفصل 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية غير مطابقة لأحكام لدستور الفصول الاتية:
- الفقرة الاولى من الفصل 6 من الدستور
- الفصل 117 منه، على أنه: ” يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات… وأمنهم القضائي”
– الفقرة الأولى من الفصل 126 منه على أن: “الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع” - الفقرة الأولى من الفصل السادس منه، بصفة خاصة، على أن: “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة”
وحيث إنه، يستفاد من أحكام فصول الدستور المستدل بها في ترابطها وتكاملها، وعلاقة بالنص المعروض أنه لا يسوغ، في ظل الدستور، أن يتم التصريح ببطلان المقرر القضائي الحائز لقوة الشيء المقضي به، إلا من قبل السلطة القضائية المستقلة، التي يمارسها القضاة المزاولون فعليا مهامهم القضائية بمحاكم التنظيم القضائي، طبقا للفقرة الأخيرة من المادة الثانية من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وحيث إنه، وإن كان القانون قد أسند إلى النيابة العامة المختصة، وهي التي تناط بها حماية النظام العام والعمل على صيانته، طلب التصريح ببطلان المقرر القضائي المشار إليه في الفقرة الأولى من المادة 17 المعروضة، مما لا يشكل، في حد ذاته، مخالفة للدستور، فإن نفس الدستور كفل بمقتضى مبدأ الأمن القضائي، للمحكوم لصالحهم الحق في تمسكهم بحجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، وإنفاذ آثارها وحيث إنه، وإن كانت حماية المشرع للنظام العام في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى المدنية، تشكل في حد ذاتها، هدفا مشروعا لا يخالف الدستور، فإنه يتعين على المشرع، عند مباشرة ذلك، استنفاذ كامل صلاحيته في التشريع، والموازنة بين الحقوق والمبادئ والأهداف المقررة بموجب أحكام الدستور أو المستفادة منها، على النحو الذي سبق بيانه ، وحيث إن صيغة الفقرة الأولى من المادة 17 المعروضة، خلت من التنصيص على حالات محددة يمكن فيها للنيابة العامة المختصة طلب التصريح ببطلان المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به التي يكون من شأنها مخالفة النظام العام، واكتفت بتخويل هذه الصلاحية للنيابة العامة المختصة، تأسيسا على هذه العلة، ومنحت، تبعا لذلك، للنيابة العامة، طالبة التصريح بالبطلان، وللجهة القضائية التي تقرره، سلطة تقديرية غير مألوفة تستقل بها دون ضوابط موضوعية يحددها القانون، بما يتجاوز نطاق الاستثناء على حجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، ويمس بمبدأ الأمن القضائي، فيكون المشرع بذلك، قد أغفل تحديد ما أسنده له الدستور في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى الخاضعة للمسطرة المدنية، ضمن النطاق الموضوعي للبند التاسع من الفقرة الأولى من الفصل 71 من الدستور وحيث إنه، تبعا لذلك، تكون الفقرة الأولى من المادة 17 المعروضة، غير مطابقة للدستور.
وبخصوص المادة 45، أشارت المحكمة إلى أن طرق التبليغ المعتمدة في النص غير كافية لضمان علم الأطراف بشكل فعلي بالدعوى، وهذا من شأنه المساس بحقوق الدفاع، حيث يُفترض أن تكون طرق التبليغ واضحة وفعالة لضمان تمكين الأطراف من الدفاع عن حقوقهم بوعي كامل. كما أسقطت الفقرة الأخيرة من المادة 90 التي منعت أطراف الدعوى من التعقيب على مستنتجات المفوض الملكي، معتبرة أن هذا النص يقيد بشكل غير مبرر حق الدفاع المكفول دستوريًا، خصوصًا أن التعقيب على هذه المستنتجات يمثل فرصة متاحة للطرفين لمناقشة قضايا جوهرية في الدعوى.
أما المادة 147 الفقرة الأولى، فقد اعتبرتها المحكمة غامضة في تحديد نطاق الأوامر الاستعجالية، التي هي أوامر قضائية تُصدر في حالات استعجالية تتطلب سرعة البت، فغياب التحديد الدقيق يمكن أن يؤدي إلى استخدام مفرط لهذه الصلاحية، مما قد يؤدي إلى زعزعة الأمن القانوني للمحاكم وضياع حقوق المتقاضين.
في المادة 288، حيث إن هذه المادة تنص على أنه: ” يثبت كاتب الضبط حالة الوصية التي عثر عليها مفتوحة ويسلمها إلى القاضي أو المحكمة وفق ما هو مقرر في المادة 284″ حيث إن خطأ شاب الإحالة الواردة في هذه المادة 288 المعروضة، إذ أحالت على المادة 284، التي تحدد المسؤول عن مفاتيح أقفال الأبواب التي وضعت عليها الأختام، بدل الإحالة على المادة 285 التي تبين الإجراءات المسطرية الواجب القيام بها عند العثور على وصية أو أوراق أخرى عند وضع الأختام، مما يخل بوضوح التشريع الذي هو من المبادئ الدستورية الأساسية، إذ يجب أن تكون النصوص القانونية واضحة ومفهومة لجميع الأطراف المعنية لتجنب اللبس والخلط في تطبيق القانون.
وتبعا لذلك، تكون المادة 288 بإحالتها على المادة 284، غير مستوفية لمتطلبات وضوح ومقروئية القواعد القانونية التي يفرضها المستفاد من مطلع الفقرة الأولى من الفصل السادس من الدستور، التي تعتبر “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة”، مما تكون معه مخالفة للدستور؛
أما المادة 323، فانتقدت المحكمة غياب ضمانات واضحة للطعن، بحيث لا تحدد بوضوح الشروط أو الإجراءات التي يمكن للأطراف الالتزام بها للطعن في القرارات القضائية، مما يهدد مبدأ المساواة بين الأطراف ويضعف آليات المحاكمة العادلة.
بشأن الفقرة الثانية من المادة 339 التي تنص على انه “يجب ان يكون الحكم معللا في حالة رفض الطلب” حيث اسقطت المحكمة هذه المادة 339 كونه متعارض مع احكام الفصل 125 من الدستور الذي ينص ” ان تكون الاحكام معللة” على سبيل الاطلاق وبما لا يتحمل أي استثناء، حيث يستفاد من صيغة الفقرة الثانية من المادة 339 بمفهوم المخالفة ان القرار القاضي بالاستجابة لطلب التجريح لا يستلزم تعليلا، مما يعارض مبدأ الشفافية القضائية ويحد من قدرة الأطراف على فهم أسباب الرفض والتمكن من الطعن في القرار بطريقة مدروسة.
أما بخصوص المادتان 408 و410 حيث ان الفقرتين الاوليتين من المادتين 408 و 410 تنص على التوالي ” يمكن لوزير العدل او الوكيل العام لدى محكمة النقض ان يقدم طلب الاحالة الى هذه المحكمة المقررات التي يكون فيها القضاة تجاوزوا فيها سلطانهم” “يمكن لوزير العدل او الوكيل العام لدى محكمة النقض ان تقديم طلب الاحالة من اجل التشكيك المشروع امام المحكمة عند عدم تقديم الطلب في الموضوع من الاطراف”
هتان المادتان منحتا وزير العدل صلاحية استثنائية في إحالة بعض الطلبات إلى محكمة النقض، وهو ما اعتبرته المحكمة تدخلاً في استقلال القضاء ومسًا بمبدأ فصل السلطات، إذ أن هذه الصلاحيات يجب أن تُمنح للقضاء فقط دون تدخل السلطة التنفيذية، وتخرق احكام الدستورية المكرسة في:
- الفقرة الثانية من الفصل الأول منه على أنه: “يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط…
- الفقرة الأولى من الفصل 87 منه، بصفة خاصة على أنه: “تتألف الحكومة من رئيس الحكومة والوزراء”
- الفقرة الأولى من الفصل 89 منه، على أنه: “تمارس الحكومة السلطة التنفيذية”
- الفقرة الأولى من الفصل 107 منه على أن: “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية”- الفصل 117 منه على أنه: “يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون.
- الفقرة الثانية من المادة من القانون الاساسي المتعلق بالمجلس الاعلى للسلطة القضائية تنص على أنه: “تمارس السلطة القضائية من قبل القضاة الذين يزاولون فعليا مهامهم القضائية بالمحاكم التي يشملها التنظيم القضائي للمملكة.”
- المادة 25 من النظام الاساسي للقضاة تنص على أنه: ” يوضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة وإشراف ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورؤسائهم التسلسليين.”
وأخيرًا، أسقطت المادتان 624 و628 حيث إن الفقرة الثانية من المادة 624، والفقرتين الثالثة والأخيرة من المادة 628 تنص على التوالي على أنه: ” تتولى السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تدبير هذا النظام المعلوماتي ومسك قاعدة المعطيات المتعلقة به، بتنسيق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة.”، وعلى أنه: ”
فإشراف وزارة العدل على النظام الإلكتروني لتوزيع القضايا، وهو أمر اعتبرته المحكمة تدخلاً غير مبرر في شؤون القضاء، رغم التنسيق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ما يخالف مقتضيات الدستور التي تؤكد على استقلالية القضاء وتمنع أي تدخل إداري في سير العمل القضائي.
تأسيسا على ما سبق بيانه، تكون الفقرة الثانية من المادة 624 والفقرتان الثالثة والأخيرة من المادة 628 مخالفة للدستور.
اخيرا امرت تأمر المحكمة الدستورية في قرارها هذا الذي صدر في 4 غشت 2025 بتبليغ نسخة منه إلى كل من السيد رئيس الحكومة، والسيد رئيس مجلس النواب، والسيد رئيس مجلس المستشارين، وبنشره في الجريدة الرسمية.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي بلبريس وإنما عن رأي صاحبها.