د. حسن المزدوي : باحث في القانون الدستوري
بعد صدور نتائج الاستحقاقات التشريعية والجماعية والجهويةلـ 8 شتنبر التأمت مختلف مجالس الجهات الاثني عشر لانتخاب رؤسائها وأعضاء مكاتبها وأجهزتها وفق قاعدة التصويت العلني التي كرستهاالمادة 8 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات،ولا يزالالرأي العام الوطني يتابع جلسات انتخاب باقي رؤساء مجالس الجماعات الترابية، سواء العمالات والأقاليمأوالجماعات والمقاطعاتوفقا لنفس الإجراء المنصوص عليه تباعا في المادتين 7 و6 منالقانونين التنظيميين 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم و113.14 المتعلق بالجماعات.
وسيكتمل المشهد المؤسساتي ببلادنا خلالالأسبوع الجاري بصدور نتائج انتخابات مجلس المستشارين التي تم إجراؤها يوم 5 أكتوبر، ثم بانعقاد جلسة افتتاح الدورة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية الحادية عشر (2021-2026) للبرلمان من طرف جلالة الملك خلال الجمعة الثانية من أكتوبر وفقا لمقتضيات الفصل 65 من الدستور، بعدها مباشرة سيمر مجلسا البرلمان لانتخاب رئيسيهما وأعضاء مكتبيهما بالاقتراع السري طبقا لمقتضيات النظامين الداخليين لمجلس النواب ومجلس المستشارين.
هذا التحول من الاقتراع السري إلى التصويت العلني الذي أجازه المجلس الدستوري، في قراراته المتتالية 966/15 و967/15 و968/15 المتعلقة بمطابقة القوانين التنظيمية 111.14 و112.14 و113.14 المتعلقة بالجماعات الترابية (الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات) للدستور، الصادرة بالجريدة الرسمية عدد 6376 بتاريخ 9 يوليوز 2015، لانتخاب الأجهزة المسيرة لمجالس الجماعات الترابية منذ 2015،بينما اعتبرته المحكمة الدستورية مخالفا للدستور بالنسبة لمجلس النوابفي قرارها رقم 37/17 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6607 بتاريخ 25 شتنبر 2017، يطرح تباينا في الجانب المعياري المعتمد في قرارات القضاء الدستوري، وبالتالي موضوعا ينكب فيهالباحثون في القانون الدستوري على تدارس طبيعة الحيثيات التي استند عليها القاضي الدستوري للتصريح بعدم مخالفة قاعدة "التصويت العلني" للدستور فيما يخص انتخاب رؤساء مجالس الجماعات الترابية ونوابهم والأجهزة المسيرة لها، وبعدم دستورية نفس القاعدة بالنسبة لانتخاب رئيس مجلس النواب ومكتبه ورؤساء اللجان الدائمة.
بداية يعتبر الاقتراع السري من المبادئ التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 21،ونصت عليه صراحة جل الدساتير المعتمدة في مختلف الأنظمة السياسية، وربطتهبممارسة حرية الاختيار الديمقراطي للمواطنين (الناخبون)، كما هو الشأن بالنسبة للدستور الفرنسيلسنة 2008 الذي أكد في الفقرة الثانية من المادة 3 على "أن حق الاقتراع يجب أن يكون دائما وعاما ومتساو وسري"، وفي نفس الاتجاه ذهبت دساتير كل من ألمانيا (المادة 38) وإيطاليا (المادة 48) والبرتغال (المادة 10) والسنيغال (المادة 3)...
وقد ظل الاقتراع السري لانتخاب الأجهزة المسيرة للمؤسسات الدستورية المنتخبة (الرئيس والمكتب ورؤساء اللجان الدائمة)، على مستوى الجماعات الترابية والبرلمان بمجلسيه، في الحالة المغربية مطبقافي ظل الدساتير الخمسة الأولى بين (1963-2009)، إلى أن تم تعويضهفي ظل دستور 2011 بقاعدة "التصويت العلني" لانتخاب الأجهزة المسيرة لمجالس الجماعات الترابية دون مجلسي البرلمان، بعد تصريح المحكمة الدستوريةفي إطار مطابقتها لبنود النظام الداخلي لمجلس النواب في 2017 بعدم دستورية هذا الإجراء القانوني.
هذا الإشكال المتمثل فيتجاوز القضاء الدستوري لقاعدة "سرية التصويت على أشخاص" باعتبارها مبدأ دستوريا،والتصريحبعدم مخالفةقاعدة "التصويت العلني"للدستور في انتخاب الهيآت المسيرة للجماعات الترابية دون مجلس النوابيدفعنا لاعتماد فرضيةفي محاولة لفهم طبيعة اجتهاد القاضي الدستوريوإزالةالتناقض الظاهري الذي طبع تصريحه بعدم مخالفة هذا الإجراء المسطري للدستور علىمستوى الجماعات الترابية وعدم دستورية نفس الإجراء بالنسبة للمؤسسة التشريعية.
تنطلق الفرضية من أن القضاء الدستورياعتمد منهجية المفاضلة بين المبادئ الدستورية في علاقتها بتراتبية المؤسسات المنتخبةوطبيعة تكوينهاوالسياقات السياسية لانتخابها، وهو الأمر الذي انعكس على توجه المجلس الدستوري نحو اعتماد ازدواجية معيارية سمحبموجبها للمشرع (المؤسسة التشريعية)بفتح باب الاستثناءباعتماد قاعدة التصويت العلني لانتخاب الهيآت المسيرة لمجالس الجماعات الترابية،بينما أغلقت المحكمة الدستورية هذا الاستثناء بالنسبة لمجلس النواب من خلال إقرارهاالصريح بعدم دستورية نفس القاعدةفي قرار لاحق.
بالنظر لصعوبة التحقق من الفرضية في مقال تحليلي، حيث يتطلب الأمر إجراء دراسة دستورية توظف مناهج بحثية تتناول تمحيص اجتهاد القاضي الدستوري عبرمقارنة بين قرارات المجلس الدستوري والمحكمة الدستوريةخلال فترات زمنية مختلفة تعلقت بالبت في دستورية قواعد قانونية انطلاقا من قوانين تنظيمية أو من أنظمة داخلية، سأحاول التحقق من هذه الفرضية باستقراء موضوعي لهذا التحول المعياري المتمثل في اعتماد قاعدة التصويت العلني على مستوى الجماعات الترابية دون مجلسي البرلمان.
بالرجوع إلى مضمون قرارات المجلس الدستوري المتتالية 966/15 و967/15 و968/15 المتعلقة بمطابقة القوانين التنظيمية 111.14 و112.14 و113.14 المتعلقة بالجماعات الترابية (الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات) للدستور، نجد أن المجلس الدستوري صرح فيها بشكل متطابق بعدم مخالفة قاعدة التصويت العلني للدستور عند انتخاب رئيس المجلس ونوابه وأجهزة المجلس،حيث ارتكز المجلس في ذلك ابتداء على الغايات المتمثلة في تخليق الحياة السياسية وضمان الشفافية والمصداقية والالتزام الحزبي، آخذا بعين الاعتبار ما جاء في المناقشة التفصيلية لمشاريع هذه القوانين التنظيمية في اللجنتين الدائمتين المختصتين بمجلسي النواب والمستشارين.
غير أنتجاوز مبدأ سرية التصويت باعتباره من المبادئ المنصوص عليها في الدستور اعتبره المجلس الدستوري في قراراته المتعلقة بالجماعات الترابية هامشا استثنائيا متاحا للمشرع،وهوالأمر الذي أدى إلى بروز اتجاهين متعاكسين في الحيثيات التي جاءت في مضمون هذه القرارات؛ اتجاه يقر فيه المجلس الدستوري صراحة وباللفظ، بناء على ما جاء في الفصلين 2 و11 من الدستور، على أن "التصويت السري يظل هو المبدأ الأساسي الذي يتعين أن يسود خاصة حينما يتعلق الأمر بالتصويت على أشخاص"، لكنه سرعان ما استدرك في اتجاه معاكس لهذا المرجعية الدستورية المعياريةإيجازه للمشرع (البرلمان) إمكانية العدول عن التصويت السري في حالات محدودة وبكيفية استثنائية ومرحلية وبالقدر الذي يقتضيهتحقيق مبادئ دستورية أخرى راسخة في مقدمتها ضمان حرية ونزاهة الانتخاب، وكذا الغايات المنشودة من هذا التحول إلى التصويت العلني (التخليق والشفافية والمصداقية والالتزام الحزبي)، ليخلص إلى اعتبار التصويت العلني ليس فيه ما يخالف الدستور.
على مستوى مجلس النوابكان الأمر مختلفا في تقديرات المحكمة الدستورية، فقد تضمنالنظام الداخلي في صيغته التي أقرها المجلس في جلسته بتاريخ 8 غشت 2017في مادتيه 30 و89 نفس قاعدة التصويت العلني لانتخاب نواب الرئيسوباقي أعضاء المكتب ورؤساء اللجان الدائمة، لكن المحكمة الدستورية اعتبرتها بكيفية صارمة ومباشرة إجراء مخالفا للدستور في قرارها رقم 37/17، المتعلق بمطابقة النظام الداخلي لمجلس النواب للدستور. وقدارتكزت المحكمة الدستورية في تعليل مخالفة هاتين المادتين للدستور على عدم إمكانية تجاوز مبدأ "سرية التصويت" الواردة في الفصلين 2 و11 من الدستور، وبنفس الصيغة اللفظية الواردة في قرارات المجلس الدستوري في 2015 المتعلقة باعتماد التصويت العلني في مجالس الجماعات الترابية.وفي هذا الصدد جاءتعليل المحكمة الدستورية باللفظ التالي "أن التصويت السري باعتباره من مظاهر حرية الاقتراع المقررة في الفصلين 2 و11 من الدستور يظل هو المبدأ الأساسي الذي يتعين أن يسود حين يتعلق الأمر بالتصويت على أشخاص".
من خلال مقارنة قرارات المجلس الدستوري وقرار المحكمة الدستورية يمكننا أن نستنتج أن التصويت العلني على أشخاص في جانبه المعياري هو إجراء مخالف للدستور، وأن انتخاب أعضاء مكتب ورؤساء اللجان لمجلسي البرلمان محاط بضمانات دستورية راسخة أبرزها قاعدة التمثيل النسبي للفرق البرلمانية، وبالتالي لا يطرح الاقتراع السري المعتمد بمجلسي النواب نفس هامش الانزلاقات السياسية والمؤسساتية الموجودة في اعتماد نفس نمطالاقتراع لانتخاب الأجهزة المسيرة لمجالس الجماعات الترابية.
لذلكحينما اجتهد المجلس الدستوري في التصريح بأن التصويت العلني لانتخاب الأجهزة المسيرة للجماعات الترابيةليس فيه ما يخالف الدستور، كان من جهة يتموقعظاهريا في الازدواجية المعيارية،من خلال فتح باب الاستثناء للمشرع للأخذ به بالرغم من مخالفته للفصلين 2 و11 من الدستور،لكنه كان يؤسس لهذا الاستثناء من باب ضرورة تجاوز واقع الجماعات الترابية عبر إعمالمنهجية المفاضلة بين مبدأيندستوريينيؤثران فيطبيعة هذه المؤسسات المنتخبةوأداء مجالسهاوسياقات انتخابها.
فإما الاستمرارية في تطبيق"التصويتالسري"باعتباره مبدأ دستوريا راسخا وبالتالي الاستمرارية في إفراز أجهزة مسيرة هجينة لهذه المؤسسات المنتخبة، لا تعكس اختيار الناخبين وعاجزة عن القيام بالمهام المنوطة بها، مما سيزيد من ضعف أداء مجالس الجماعات الترابية لأدوارها الحيوية،أوتجاوز هذا المبدأ إلى تحقيق نزاهة وشفافية العمليات الانتخابية باعتبارها مبدأ دستوريا ورد في الفصل 11 من الدستور باعتماد التصويت العلني لانتخاب الأجهزة المسيرة لهذه المجالس من أجل توفير ضمانات ملموسة تساهم في تخليق الحياة السياسية والالتزام الحزبي.
فترجيح تحقيق الحكامة المؤسساتية على مستوى الجماعات الترابية من خلال تعزيز مشروعية التمثيل الديمقراطيوالالتزام الحزبي واستكمال نزاهة العمليات الانتخابية وشفافيتها في محطة انتخاب رؤساءمجالس الجماعات الترابية ونوابهم والأجهزة المسيرة لها، كان يغلب الأخذ بمبدأ نزاهة العمليات الانتخابية وشفافيتها عبر التحول إلى التصويت العلني عوض الاقتراع السري، وبالتالي المساهمة في تقوية الثقة في هذه الجماعات الترابية بالنظر لرهانات التنمية المستدامة المعقودة عليها وما تشكله من رافعة لتوطيد اللامركزية والقطع مع الممارسات المخلة بالديمقراطية المحلية، خاصة ظاهرة المتاجرةبأصوات أعضاء المجالس المنتخبة في محطة انتخاب رؤساء المجالس ونوابهم وضعف التزام المستشارين الجماعيين بقرارات وتحالفات أحزابهم.
انطلاقا مما سبق يمكن القول إن تحقيق كل هذه الغايات المرتبطة بمبدأ نزاهة وشفافية الانتخابات وتخليق الحياة السياسية أتاحللمجلس الدستوري تجاوز منهجية المطابقة المباشرة للنصوص القانونية للدستور إلى إعمال منهجية المفاضلة بين المبادئ الدستورية التي رجحت تطبيق التصويت العلني عوض التصويت السري كضمانة لتحقيق مبدأ نزاهة وشفافية انتخاب الأجهزة المسيرة لمجالس الجماعات الترابية.