العزل السياسي

يعتبر قانون العزل السياسي وسيلة مسطرية جريئة لتطبيق قانون الإعفاء من المناصب الكبرى، وآلية من أليات تعزيز الخيار الديمقراطي، ومنهج إصلاحي فعال لبناء الدولة المدنية وإقامة هياكلها الدستورية وتطهير المؤسسات العمومية والهيئات المنتخبة من آثار الأداء السيئ الذي يترتب عنه سوء التدبير والفساد واستغلال النفوذ الإداري والسياسي. وبالتالي فقانون العزل آلية فعالة لتأهيل الشأن العام وتحقيق عدالة تكافؤ الفرص من خلال منح الحق في المسؤولية لمن هم أحق بها وإبعاد غير الأكفاء والمشتبه بهم في قضايا فساد عن المناصب الكبرى الحساسة في الجماعات والبرلمان وفي الحكومة والمؤسسات العمومية.

لا يعتبر "قانون العزل" السياسي غريبا عن منظومة القوانين الدستورية المغربية الجاري بها العمل في حالات الإقالة والاستقالة والإبعاد وتجميد المهام طبقا لشروط معينة تفرض التعامل بهذا المنطق وتبعا لمستجدات دستور 2011 الذي أصل في فصوله 42 و47 و51 و59 حزمة قوانين صالحة للتأويل والتنزيل في هذا الشأن ؛ لقد عرف المغرب حالات من هذا القبيل في المسارات الحكومية والوظيفة العمومية بصفة عامة . ولأكثر من مرة أثير سؤال تطبيق قانون العزل السياسي في المؤسسات السياسية الرسمية والحكومية والنيابية بالمغرب وقد سبق التعامل مع هذا الطرح السياسي قانونيا مرارا ؟ فكيف تم ذلك ؟ سنحاول الإجابة من خلال هذا البحث الفقهي عن بعض هذه الأسئلة، مع المقارنة والتقابل في قوانين دستورية أخرى من خلال هذه المداخلة.

وعلى الرغم من ذلك يعتبر قانون العزل السياسي اصطلاحا واردا على المنظومة القانونية المغربية وغير مؤصل في مدونة القوانين المتداولة في الممارسة السياسية العمومية حتى الآن وارتباطه بالجانب الإداري الإصلاحي أكثر قربا منه إلى الجانب السياسي المنهجي أو القانوني .وقد تمت الإشارة إليه ضمنيا في تجربة القوانين المنزلة الخاصة بنظام الجماعات المحلية بالمغرب سنة 2015 من خلال مبادرة وزارة الداخلية، حين سحبت حق الترشح من حوالي 143 مستشار ونائب برلماني وبعض رؤساء المجالس المحلية المنتخبة، وجمدت نشاط بعضهم وقدمت بعضا منهم للمساءلة والمحاكمة، في إشارة واضحة لعزلهم بسبب ملفات فساد أو شبهات أو أحكام قضائية أو خروقات ؟ لكن عمل وزارة الداخلية بقي جد منحسر في الجانب الإجرائي الذي يكتسي الصبغة الإصلاحية لا غير ولم يتم التمكين له مسطريا بقوانين منزلة عن دستور 2011 ليكتسب الصفة الدستورية، لكن على الرغم من ذلك فقد تحول مفهوم العزل السياسي إلى قانون بعد عملية العزل التي قام بها جلالة الملك تهم عدة وزراء من الحكومة السابقة السنة الماضية (2017)، على اعتبار أن القرارات الملكية نفسها قرارات تكتسي الصبغة التشريعية وسريان مفعول العزل السياسي على كل قطاع بما فيه القطاع العسكري والأمني .فقد خضع الجهاز العسكري بدوره لعملية تأهيل وتحديث واسعة النطاق. وبالتالي فإن قانون العزل سواء في شقه السياسي أو المدني أو العسكري، صار قانونا عمليا وساري المفعول يمكن تفعيله على أكثر من مستوى وخصوصا القطاع الجماعي الذي يعرف ذروة الفساد والاختلال وسوء التدبير وتبذير المال العام. حاليا يقوم وزير الداخلية عبد الواحد لفتيت بمبادرات إصلاحية في الجماعات المحلية، تدخل في سياق هذا القانون، يتم من خلالها عزل عشرات من رؤساء الجماعات المحلية من مناصبهم بل ومحاكمة بعضهم لأسباب ترتبط بسوء التدبير أو بالتبذير المالي للجماعات أو بشبهة الفساد والعبث في صفقات عمومية.

أما كيف برز مصطلح العزل في المنظومة السياسية بالمغرب، فقد ورد الاصطلاح ضمن النقاش البرلماني منذ حوالي خمس سنوات تقريبا، يخص الأوضاع السياسية العامة في البلاد ، فأثار جملة من الأسئلة البرلمانية أغلبها دار حول الفساد وسوء التدبير، وقد مهد ذلك للبدء في مناقشة قوانين ترتبط بالمساءلة والمحاسبة والعزل السياسي. فخلال السنة التشريعية 2012 أثار نائب برلماني وقيادي في حزب العدالة والتنمية تحت قبة البرلمان المغربي[عبد الله بوانو. رئيس فريق العدالة والتنمية في البرلمان.]،موضوعا هاما استحق الاهتمام الإعلامي والأكاديمي معا، وطالب النائب البرلماني المحترم بتفعيل مسطرة العزل السياسي الرامية إلى الوقوف ضد فئة معينة من السياسيين الفاسدين في كل قطاع ومنعهم من الحق في الترشح وإعفائهم نهائيا من الحياة النيابية. ولكن الإجراء لا يجب أن يقتصر فقط على المنتخبين ولكن يشمل مسؤولين في الأجهزة العمومية والحكومية إذا تبث عنهم خرق مهني أو تجاوز قانوني أو استغلال منصب أوجاه لقضاء مصالح شخصية أو فئوية أو بسبب دعم تيار أو طيف سياسي معين أثناء الانتخابات. هذا الطرح السياسي لم يكن واردا في ديباجة مسودة الإصلاح التي وضعها حزب العدالة والتنمية في ولايته الحكومية الأولى، ولكنه دخل ضمن منظومة الإصلاح التي جاءت بها متغيرات الدستور وأصبحت تحصيل حاصل في مجموع مقترحات الإصلاح التي وعدت الحكومة بتنفيذها سنة 2012، وقدم رئيسها آنذاك السيد عبد الإله بن كيران ،وعدا بالتنفيذ. سعد الدين العثماني فيما بعد، وهو رئيس الحكومة الثانية لحزب العدالة والتنمية، وبناء على برنامج سياسي شامل للإصلاح، قدم مخططا للإصلاح ومحاربة الفساد حتى حدود سنة 2021 ولكنه كان مصيره التجميد والإهمال مما أفرغ عملية الإصلاح برمتها من محتواها القانوني والإجرائي.

تعتبر الرؤية السياسية الإصلاحية التي طالبت بالإصلاح المؤسساتي ومحاربة الفساد ،رؤية واضحة وفعالة في إطار تجديد وتحيين وتنويع مدونة القوانين الدستورية وهو طرح إصلاحي محض، يدخل ضمن منظومة الإصلاحات السياسة التي جاءت بها انتفاضة الربيع المغربي، وأصبحت تحصيل حاصل في مجموع مقترحات الإصلاحات الدستورية الأخرى. ويعتبر هذا القانون آلية هامة من آليات تحسين الأداء الحكومي وتأهيل الكفاءات وحماية الشأن العمومي من النزوات الفردية والمصالح الخاصة وتوظيف المناصب الرسمية في الحكومة وفي المؤسسات العمومية التابعة لها، التوظيف الجيد. وبالتالي فهو قانون إبعاد علني ورسمي لكل من تبت في حقه خرق أو ممارسة مهنية أو وظيفية تتناقض مع المبادئ العامة للمسؤولية وتنعكس آثارها على النزاهة والإخلاص والحكامة الجيدة في الحكومة وأجهزة الدولة العمومية والجماعات والمجالس المنتخبة والإدارات والمؤسسات التابعة للأجهزة العمومية والشبه عمومية وحتى المؤسسات العسكرية والأمنية التابعة للدولة.

فقانون العزل السياسي يشكل جزء هاما من البنية المدنية للدولة ووسيلة فعالة لبناء دولة المؤسسات وطريقا سالكا لتعزيز الانتقال الديمقراطي بالنسبة للدول التي تتحول ديمقراطيا.

وهذه بعض النقط الأساسية في تطبيق إصلاح شامل يدخل في سياق تصحيح مسارات الإصلاح من بينها:

  • نبذ الأسباب التي كانت وراء التراجع عن الإصلاحات التي بدأها المغرب سنة 2000.
  • إبعاد الأشخاص الذين يعتبرون مسؤولين عن التردي السياسي والاقتصادي وسوء التدبير، عن المناصب الرسمية الحكومية .
  • تفعيل برنامج الإصلاح ومحاربة الفساد والرشوة وإصلاح الشأن العمومي.
  • تطهير المجالس المنتخبة التشريعية والاستشارية والجماعية من الأشخاص الفاسدين أو الذين تبث في حقهم خرق أو تجاوز أو إخلال بالمسؤولية وعدم السماح لهم بالعودة إلى هذه المناصب.
  • البحث عن كفاءات مؤهلة لقيادة المرحلة سياسيا واقتصاديا لتفادي كل تراجع عن النموذج الديمقراطي الذي ميز المغرب عن باقي دول الربيع العربي.

لذا يعتبر " العزل السياسي" مكونا قانونيا صريحا يمكن التنصيص عليه كبند هام في مدونة الإصلاح، إذ يمكن إدماجه في مسطرة القوانين المنزلة عن دستور 2011 والعمل به لتطهير الحياة السياسية وإبعاد الفاسدين عن مراكز القرار وخصوصا في الحياة النيابية؛ التشريعية والجماعية.

لقد تم التعامل مع هذا الإجراء في بلدان الربيع العربي بعد الثورة وقيام حكومات تصريف الأعمال واعداد النصوص الدستورية. في مصر بعد تنصيب الرئيس محمد مرسي وانتشار مصطلح " الفلول"، كان قانون العزل السياسي هو الآلية الفعالة المناسبة لإبعاد الكتلة السياسية التي كانت تؤيد الرئيس مبارك والتي كان لها دور أساسي في إدارة دفة الحكم بمصر على مدى أربعة عقود من الزمن ، وهي التي حملتها المعارضة السياسية المصرية؛ الفشل الذريع الذي منيت به التجربة الديمقراطية في مصر، وكذلك انهيار الاقتصاد المصري وتراجع القدرات الإصلاحية في المجال التنموي وانتشار الفساد والفقر والتخلف في مصر، عموما فشل النموذج الاقتصادي المصري الذي بدأ في مرحلة السادات وانتهى بانتفاضة الربيع العربي في عهد حسني مبارك، طبعا قبل التراجع الذي حصل في بنية الدولة العربية بعد الثورة وعادت مصر أدراجها إلى الفترة الساداتية المتشددة واستيلاء الجيش على مقالد السلطة عبر انتخابات مزيفة وصورية السنوات الأخيرة.

نحن لا يهمنا ما آلت إليه التجربة في مصر وفي البلدان العربية ،نحن نقتبس الأهم من الفكر السياسي العالمي ونحتضن الفكرة ونقيس بالتجربة لأنها الوسيلة المعيارية الفعالة لتحسين أداء الأجهزة الحكومية. فالتحيين القانوني للدستور المصري في يونيو 2012 خلال إعداد مسودة الدستور المصري أشار في أحد فصوله إلى مشروعية" العزل السياسي" ووافق ذلك المقترح رغبة رئيس الجمهورية آنذاك محمد مرسي وأكد على إقراره بندا في القوانين الدستورية. وفي هذا السياق اعتبر التلاقح الدستوري بين مصر والمغرب أو غيره ، واردا من خلال تلقي الإشارات السياسية والثقافية المتبادلة بين البلدان. لقد جاءت الفكرة منسجمة مع هذا الطرح وباحثة عن مسحة قانونية دستورية تكتسي طابع المقترح التشريعي وغير مكتفية بخيار النقد والمعارضة السياسية، ولذلك لم يذهب المقترح بعيدا عن فكرة التأصيل الدستوري للعزل في حين بقي المقترح بعيدا عن متناول لجنة القوانين البرلمانية التي لم تعبأ بالموضوع حتى الآن.