تسريب وثائق فرنسية توثق دعم المغرب للجزائر لطرد المستعمر

في وثائق استخباراتية فرنسية مصنفة “سري للغاية”، نشرها الإعلامي الجزائري المعارض وليد كبير اليوم، نقلاً عن جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية المعروف اختصارًا بـSDECE، بتاريخ 27 يوليوز 1959، توثق واحدة من أبرز المحطات السياسية والإنسانية في تاريخ المنطقة المغاربية.

الوثائق الاستخباراتية الفرنسية

هذه الوثائق، الموجهة من رئاسة الحكومة الفرنسية إلى مكتب الجنرال شال في الجزائر، ترصد بدقة غير معهودة حجم ونوعية الدعم الذي قدّمه المغرب، ملكًا وحكومةً وشعبًا، لجبهة التحرير الوطني الجزائرية في أوج معركتها ضد الاستعمار الفرنسي، مما يجعل من المغرب ليس فقط حليفًا، بل شريكًا فعليًا في مشروع التحرر الجزائري.

وتكشف الوثائق أن دعم المغرب للثورة الجزائرية كان نابعًا من رؤية استراتيجية تبناها الملك الراحل محمد الخامس، تقوم على التوفيق بين ثلاث أولويات كبرى: تأكيد ريادة مغربية في شمال إفريقيا مستقلة عن المحور القاهري الناصري، الحفاظ على هيبة العرش المغربي داخل المحيط العربي من خلال دعم ملموس للثوار، ثم تجنب التصعيد مع فرنسا من خلال الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات المالية والتقنية معها، هذه المعادلة الدقيقة، التي نسجها محمد الخامس ببراعة، جعلت من المغرب قاعدة خلفية للثورة الجزائرية، وجعلت منه في نظر عواصم القرار العربي والدولي وسيطًا موثوقًا بين الشرق والغرب.

وبحسب نفس الوثائق، فإن حكومة عبد الله إبراهيم لعبت دورًا مفصليًا في تنفيذ هذا الانخراط، إذ تشير التقارير إلى أن الدعم المغربي لم يكن رمزيًا ولا ظرفيًا، بل مؤسساتيًا واستراتيجياً، أقرّه مجلس الوزراء بشكل صريح.

وقد شمل هذا الدعم السماح بإقامة قواعد عسكرية للثوار الجزائريين فوق التراب المغربي، وتوفير جوازات سفر مغربية لعناصر الجبهة، واستعمال الحقيبة الدبلوماسية لنقل المراسلات السرية، فضلًا عن إنشاء محطة إذاعية في الناظور، وتوفير بنية لوجستية متكاملة لنقل السلاح وتخزينه، وتشييد مراكز للتدريب والاستشفاء، ومعسكرات لأسرى الحرب.

وتسلط الوثائق الفرنسية المسربة الضوء أيضًا على موقف عبد الرحيم بوعبيد، الذي عبّر خلال لقاء رسمي مع فرحات عباس عن التزام المغرب بدعم “شامل وكامل” لجبهة التحرير، في موقف يترجم الإجماع السياسي المغربي آنذاك حول أولوية دعم كفاح الجزائريين من أجل الاستقلال، رغم كل ما قد يترتب عن ذلك من توترات محتملة مع باريس.

شبكة استخباراتية للجبهة داخل المغرب

وتبرز الوثائق أن هذا الدعم لم يكن محصورًا في دوائر الدولة، بل شمل أيضًا المجتمع المدني المغربي بمختلف مكوناته، فقد واصل الحزب الشيوعي المغربي، رغم حظره منذ 1952، دعم الجبهة دعائيًا، فيما قدم الاتحاد المغربي للشغل دعمًا ماديًا ومعنويًا لنقابة العمال الجزائريين UGTA، أما الاتحاد الوطني لطلبة المغرب فتكفل بتوفير وثائق مزورة، وصناديق بريد، ودعم لوجستي وبشري موجه لصالح العمل الثوري داخل وخارج الجامعة.

ومن أخطر ما توثقه هذه الوثائق هو وجود شبكة استخباراتية تابعة لجبهة التحرير داخل التراب المغربي، منذ أكتوبر 1958، تتولى التنسيق الأمني، والمراقبة، وجمع المعلومات، والتحقيق مع المعتقلين، بتنسيق غير معلن مع الأجهزة الأمنية المغربية، كما تشير أيضا إلى أن هذه البنية كانت بقيادة شخص يُدعى لاغا الزاوي، وأن بعض عناصرها كانت ترتبط بعلاقات مباشرة مع جهاز الأمن الوطني المغربي، وهو ما يكشف عن حجم التداخل بين الجبهة ومؤسسات الدولة المغربية في تلك المرحلة.

على المستوى العسكري، تؤكد الوثائق أن المغرب استقبل على أراضيه هياكل قيادية رئيسية لجيش التحرير الوطني، بما في ذلك هيئة أركان الغرب في الناظور، وهيئة الولاية الخامسة في وجدة، وقيادة المنطقة الثامنة في فكيك، إلى جانب إنشاء قواعد لوجستية استراتيجية في مناطق مثل بوبكر – تويسيت وفكيك – بوعنان، كما تم إحداث مراكز لصناعة الألغام والذخيرة، ومستشفيات ميدانية، ومعسكرات لتأطير الأسرى. وتقدر الوثيقة عدد المقاتلين الجزائريين المتواجدين بالمغرب آنذاك بما بين 3000 و4000 رجل، كانوا يشكلون قوة احتياطية مهمة على مشارف الحدود عشية المفاوضات بين محمد الخامس والرئيس الفرنسي شارل ديغول.

دعم لا يخلو من تشويش

ومع ذلك، لم تكن العلاقة بين المغرب والجبهة خالية من التوترات، حيث توثق الوثائق الفرنسية بعض الخلافات التي نشأت بسبب مطامع ترابية لعناصر من الجبهة في المناطق الحدودية، ووقوع اشتباكات بين الثوار والقوات الفرنسية انطلاقًا من التراب المغربي، بالإضافة إلى تحفظات مغربية على نشاط استخبارات الجبهة داخل المملكة، ووجود شكوك رسمية حول موقف الجبهة من أحداث الريف المغربي، إلى جانب عدم رضا السلطات المغربية عن أداء ممثل الجبهة في الرباط، خير الدين، الذي وُصف في الوثائق بأنه “فشل في كسب ثقة الحكومة المغربية”.

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *