هل تحوّلت قرينة البراءة إلى غطاء للتطبيع مع الفساد؟

فيما سبق؛ فجّرت قضية “إيسكوبار الصحراء” فضيحة فساد سياسي ثقيل، خرجت من الظل إلى دائرة الضوء، وفضحت شخصيات سياسية نافذة وبارزة. أبطالها متهمون على ذمّة المتابعة في حالة اعتقال، بأمر من قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء.

توسّع دائرة الاتهام

وقد أُثيرت هذه القضية جرّاء ما ترتّب عن توسيع دائرة الاتهام، بعد سقوط تاجر المخدرات المالي، الذي كشف عن تورّط شخصيات في تهم تخص جرائم تبييض الأموال، قصد تطهير الأرباح المحققة بطريقة غير مشروعة، وإخفاء الثروة من دائرة الشبهة.

حدود القضاء الحالي

رغم الجرأة القضائية، التي امتلكت الشجاعة لتكريس مكتسبات دستور 2011 للمملكة المغربية، بعد أن أقرّ فصل السلط، والارتقاء بالسلطة القضائية، وإقرار قاعدة سيادة القانون؛ فإن قضاء الاتهام لا يتمتع بخاصية قضائية تمنحه الصلاحيات الكاملة لمساءلة مصادر الثروة، والبحث والتحقيق بشأنها.

تحريك الدعوى العمومية

إن تحريك الدعوى العمومية لم يكن تلقائياً بخصوص متابعة بعض الشخصيات السياسية في الآونة الأخيرة، وإنما ترتّب عن قضايا تتعلق بجرائم مستقلة، أظهرت وجود اختلالات وعناصر مكوّنة للجرائم، تستحق البحث والمتابعة والعرض على أنظار القضاء الزجري.

جدل الإثراء غير المشروع

فيما بخصوص الإثراء غير المشروع، فهو يمنح السلطة القضائية صلاحية مساءلة أشخاص بعينهم يتمتعون بصفة معينة حول مصادر ثروتهم، دون انتظار وقوع جريمة لتحريك الدعوى العمومية؛ بل بمجرد تحقق إثراء فاحش، يخول للقضاء البحث فيما إذا كان مصدر الثروة مشروعاً أم غير مشروع.

غياب قانون يجرّم الإثراء غير المشروع

إن افتقار المنظومة الجنائية المغربية لقانون الإثراء غير المشروع، يجعل من دائرة الفساد خارج التغطية القضائية الزجرية؛ الأمر الذي يشجع على الفساد، واستغلال النفوذ، والحصانة ـ ربما الاعتبارية ـ لتحقيق مصالح وأرباح شخصية بطريقة غير مشروعة، ويدفع المسؤول السياسي إلى الاهتمام بمصالحه ونسيان تطلعات المواطنات والمواطنين.

شبهة الحماية السياسية

بعد تنامي حدّة المتابعات القضائية ضد مسؤولين سياسيين، يتساءل البعض: هل سحب مشروع قانون الإثراء غير المشروع له علاقة بحماية شخصيات أثبت الزمن أنها حققت ثروة مشبوهة؟ بينما كان من الممكن كشفها تلقائياً لو تم إخراج مشروع القانون المذكور إلى الوجود دون سحبه.

الفئات المشمولة بالقانون المسحوب

بالرجوع إلى نص الفصل 8-256 من مشروع القانون الذي تم سحبه، فقد حدد مجموعة من الفئات المشمولة بجريمة الإثراء غير المشروع، وهي الملزمة بالتصريح الإجباري بالممتلكات طبقاً للنصوص التشريعية الجارية، ويمكن تعدادها كالآتي:

  • أعضاء الحكومة وأعضاء دواوينهم.

  • أعضاء المجلس الدستوري.

  • أعضاء مجلس النواب.

  • أعضاء مجلس المستشارين.

  • قضاة المحاكم المالية.

  • أعضاء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري.

  • منتخبـو المجالس المحلية والغرف المهنية وبعض الموظفين أو الأعوان العموميين.

مشروع القانون الجنائي بعد دستور 2011

بعد دستور 2011، تم إعداد مشروع قانون يهم التعديل الشامل لمجموعة القانون الجنائي، قصد مواكبة متغيرات العصر، التي أضحت فيه الجرائم متطورة، بينما التجريم تقليدي ومتجاوز؛ فضلاً عن تطور القانون الدولي، الذي يتطلب ملاءمة التشريعات الوطنية معه، وإقحام قضايا أخرى تهم الإنسانية وحقوق الإنسان والتكنولوجيا المعاصرة، بالإضافة إلى تطويق جرائم الفساد، بما فيها المالي.

المغرب ومكافحة الفساد دولياً

المغرب يراهن على أن يكون دولة فاعلة دولياً فيما يخص مكافحة الفساد، بما فيه المالي والرشوة، على اعتبار أن السياسات المالية والنقدية المغربية تعتبر من التجارب الرائدة عالمياً، وموثوقة بشهادة الشركاء والمؤسسات الدولية؛ إلا أنها تحتاج إلى مزيد من الترشيد عبر مكافحة الفساد، لتعزيز مصداقيتها، وتحقيق مؤشرات التنمية المرجوة.

تبرير وزير العدل

في هذا الإطار، أُثير الجدل حول الجدوى من سحب مشروع القانون الجنائي من البرلمان، الذي كان يتضمّن جريمة الإثراء غير المشروع. فقد تذرّع وزير العدل بكون الجريمة منافية لأحكام الدستور، الذي يضمن قرينة البراءة، وهو تبرير غير مشروع في ذاته أمام التطلعات التي يسعى المغرب لتحقيقها في هذا الإطار.

قرينة البراءة والبحث القضائي

تعد قرينة البراءة حق مقدس ومكفول بموجب الاتفاقيات الدولية والدستور المغربي؛ غير أنّ البحث والتحقيق والمحاكمة أصلاً لا يمسّ بقرينة البراءة، ما دام المتهم يتمتع بكافة الضمانات القضائية، بما فيها البراءة، حيث إن المحاكمة تسعى لكشف الحقيقة، لتطهير الشخص موضوع الشبهة من دائرة الاتهام.

فرصة لتطهير الذمم

يشكل قانون الإثراء غير المشروع فرصة أمام الثري للخروج من دائرة الشبهة، وبما أنه واثق من براءته، فلماذا الخوف من البحث والتحقيق القضائي الذي يسعى أولاً وأخيراً لكشف الحقيقة؟ إما للحكم بالإدانة أو بالبراءة.

بين مكافحة الفساد والتطبيع معه

يمكن القول أن الإفراج عن قانون الإثراء غير المشروع يعتبر حماية للمسؤول الذي اكتسب ثروة بطريقة مشروعة من دائرة الاتهام والشبهة المالية، كما أنه فرصة لمكافحة الفساد واستغلال النفوذ وجني الأرباح والثروة بطرق غير مشروعة، وحماية للمالية العامة، وتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.

أمّا سحب مشروع قانون الإثراء غير المشروع، فهو شبهة حول التطبيع مع الفساد، وإخراج للفساد الممنهج من دائرة التغطية القضائية ورادار النيابة العامة، وجعل المال العام وكالة بلا بوّاب، وفتح المجال لتغوّل الفساد واستغلال النفوذ. فالأصل هو افتراض البراءة، بينما المتابعة تطهير من الشبهة وليست فقط من أجل الإدانة. فلماذا الخوف؟

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *