”التنسيقيات”ظاهرة اجتماعية تؤشر على”موت” الوسائط التقليدية الأحزاب والنقابات

أدى غياب مؤسسات الوساطة التقليدية في الترافع عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية، إلى ظهور أنماط جديدة من الفعل الاحتجاجي، عبر تنظيمات عفوية، تسعى إلى الدفاع على مصالح فئوية، وربما تتسع أحيانا من ملف مطالب فئوية إلى مطالب اجتماعية، بزغت مع تطور الوسائط الرقمية التي استطاعت أن تسهل عملية الحشد والتنظيم.

وقد برز هذا النمط من السلوك الاحتجاجي في العالم، كما هو الحال بالنسبة للمغرب خلال محطة 20 فبراير، واحتجاجات الحسيمة، وتنظيمات فئوية في شكل تكتلات على شكل تنسيقيات، بديلة عن الهياكل التقليدية، بعد أن كشف الواقع السياسي والاجتماعي، عن احتضار مؤسسات الوساطة التي تشهد موت سريريا؛ فضلا عن ظهور أشكال رقمية من خلال حملات المقاطعة، كوسيلة للضغط وفرض مطالب الجمهور على الجهات المعنية.

كما أن الاحتجاجات العفوية، شكلت فرصة أمام المحتجين لإثارة قضايا من اختصاص الوسطاء التقليدين، والمكونة من الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني إلى جانب الإعلام؛ غير أنها تبدو وكأنها تخلت عن أدوارها الجوهرية، ودخلت في سلسلة من الحسابات السياسية الضيقة، وتركت المشهد السياسي والاجتماعي فارغا.

وتعد الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، أحد أبرز المؤسسات التي تؤدي وظيفة الوساطة، وتأطير الفئات والمواطنين والحركات الاحتجاجية، والدفاع عن القضايا المجتمعية والفئوية؛ ومؤطرة بموجب الفصلين 7 و8 من الدستور على التوالي، الذي يكفل لها تلك الأدوار.

كما أنه من شأن مؤسسات الوساطة الاجتماعية، أن تلعب دور في توطيد الديمقراطية، عبر ترسيخ دولة المؤسسات، وإرساء الثقة بين المجتمع والمؤسسات والدولة بصفة عامة، بالنظر إلى كونها شكل من أشكال التدبير السلمي والديمقراطي للاختلاف والأزمات السياسية والمجتمعية.

وبالرجوع إلى الوظيفة الجوهرية للأحزاب السياسية، فتتمثل في تعبئة الرأي العام، وإنتاج الكوادر القيادية، وتأطير المواطنين، بالإضافة إلى مراقبة أداء مؤسسات الدولة، فضلا عن دور الوساطة بين الجماهير والدولة، ثم تسوية الصراعات والأزمات.

بينما تحمل النقابات هم الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والرمزية والمهنية الفردية والجماعية، ودراسة وتنمية المصالح الفئوية، وتطوير الوضع الاعتباري لها، والمساهمة في إعداد السياسات الوطنية في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم الاستشارة في العديد من القضايا والأزمات، بغض النظر عن دورها المحوري في الدفاع عن حقوق العمال.

ومنذ تاريخ طويل، استطاعت الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، تحقيق العديد من القضايا والمكاسب الحقوقية والديمقراطية، ذات الطابع اقتصادي والاجتماعي، لصالح الأفراد والمجتمع والفئات العمالية، من خلال الضغط والمشاركة في صناعة القرار، والتفاوض مع الدولة، ولعب دور الوسيط بين المجتمع والدولة، واقتراح حلول للعديد من الأزمات.

كما حققت الأحزاب والنقابات مجموعة من الملفات والقضايا، والعديد من المكاسب عن طريق الممارسات الديمقراطية المؤسساتية، فضلا عن إنتاج أطر للدولة، ساهمت في عملية البناء، والتنشئة المواطنة، وتعبئة الرأي العام، والمرافعة لصالح قضايا سياسية وحقوقية واجتماعية والاقتصادية.

فالمغرب ومنذ الاستقلال، عرف حركة حزبية ونقابية، كان لها دور أساسي في صناعة المشهد السياسي والحقوقي بالمغرب، وحققت مجموعة من المكاسب لصالح الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما جعل المغرب استثناء في الساحة الإقليمية، بفضل استجابة المؤسسة الملكية في العديد من المحطات، إلى الفعل الاحتجاجي الذي تبنته بعض الأحزاب والنقابات في المغرب.

بالإضافة إلى مشاركة العديد من الأطر التي أنتجتها الأحزاب والنقابات، في تولي مسؤوليات حكومية ومؤسساتية، من خلال الممارسة الديمقراطية والمؤسساتية، فضلا عن المساهمة في صناعة القرار، وترجمة بعض المطالب والملفات، عبر الممارسة الرسمية.

لكن الملاحظ في العقود الأخيرة، عجز الوسطاء التقليدين في أداء مهام الوساطة، وفقدان الثقة من قبل الجماهير والرأي العام، ما أدى في غالب الأحيان، إلى تعثر البودر الرامية إلى احتواء موجة الاحتجاجات، وطرح حلول ذات مصداقية، ما يزيد من تعميق الأزمة بين الدولة والمجتمع، خصوصا وأن تلك المؤسسات، أضحت تلعب خارج نبض الذي يدقه الشارع، ودخلت في تكتلات ومصالح وتحالفات ضيقة، وإن أحجمت عن القول أنها انتهازية.

كما أن الأحزاب والنقابات وغيرها من مؤسسات الوساطة، أضحت لا تستطيع إنتاج أطر وكوادر، قادرة على قيادة المشهد السياسي، ولعب أدوار القيادة والتنظيم والتأطير، وإنتاج الأفكار والأطاريح والتصورات، واقتراح حلول، وتوجيه الرأي العام؛ الأمر الذي أدى إلى فقدان المصداقية فيها من المجتمع، والذي ظل يرفض أي محاولات للعب دور الوساطة بين السلطة والمجتمع، بعد أن أبانت عن انحيازها للخطاب الرسمي، وتبني شعار الدفاع عن القضايا العادلة والمشروعة بأسلوب مكيافيلي.

وقد أفضى هذا الوضع، إلى توجه المحتجين مباشرة إلى مخاطبة السلطة، بعد فقدانهم الثقة في المؤسسات المنتخبة، وهيئات الحوار والتفاوض والوساطة، لكن هاجس الدولة دائما يكون الأمن، في ظل غياب مؤسسات تدبير الأزمات، بعد انهيار وظائف الأحزاب والنقابات وغيرها من مؤسسات الوساطة، ما يكشف عن أزمة وساطة حقيقية، واتساع الهوة بينها وبين الأفراد، ويفتح الباب نحو المجهول.

وقد بدا جليا هذا الأمر خلال أزمة كورونا، التي تخلف فيها الفاعل السياسة عن التاريخ لإبراز قدراته، بينما سطع نجم الدولة التقليدية بشكل استعجالي لتدبير المخاطر الأمنية والصحية والاقتصادية والاجتماعية، وأبانت عن قدراتها في القيادة والتأطير وصناعة القرار وتوجيه الرأي العام، وبقلب رحب من مختلف مكونات المجتمع، ما ينم عن تعلق المغاربة بالدولة التقليدية، وفقدانهم الثقة في الهيكل السياسية والمهنية.

ولكون أن هاته المؤسسات التقليدية هي التي تمتلك آليات وأدوات، للتعبئة والحشد والتأطير والتنظيم وتوجيه الرأي العام، من أجل الدفاع عن قضايا مجتمعية أساسية؛ فإن تخليها عن وظائفها الجوهرية، شكلت فرصة أمام التكتلات العفوية، إلى تنظيم نفسها بتلقائية، وتبني ملفات مطلبية، فضلا عن أن المناسبة شرط لإثارة قضايا تخلى عنها الوسطاء التقليدين، وتركت فراغ في الساحة السياسية، ما سمح بظهور خطابات وقيادات سياسية متدنية، ورأي عام دون مستوى تطلعات نبض المجتمع.

وفي ظل هذا الوضع، تم رصد بزوغ أنماط جديدة من الفعل الاحتجاجي في المغرب خلال السنوات الأخيرة، في شكل تنسيقيات عفوية ومنظمة، استطاعت تجاوز الأنماط المؤسساتية المعترف بها دستوريا، والتكيف مع التغييرات الاجتماعية، وإفراز سلوك احتجاجي من الجيل الجديد قادر على حمل مشعل الدفاع عن مصالح فئوية.

كما تمكنت هاته التنسيقيات من حشد التعبئة الاجتماعية، وفرضت نفسها في الساحة الجماهرية، والترافع لصالح قضايا فئوية، وتأطير تنظيمات وتجمعات ووقفات احتجاجية واضطرابات، من خلال التكتل في تنظيمات رقمية، وترتيب صفوفها عبر ما سخره الفضاء الافتراضي من إمكانيات في ترتيب الصفوف، وترجمتها في أنماط احتجاجية على أرض الواقع، في شكل أضرابات ومظاهرات، دون انصياعها للنقابات والأحزاب.

أما الغريب في الأمر، أنه كلما شهد المغرب احتجاجات يخص مطالب محدودة أو فئوية، إلا وشكل فرصة للتكتل والتنظيم، وتوسيع دائرة المطالب بشكل تدريجي، لتشمل مطالب اجتماعية واقتصادية؛ ما يؤكد أن تجاهل المطالب الأولية بشكل استعجالي، يؤدي إلى مزيد من التأجيج والاحتقان المنظم، خصوصا إذا كانت التكتلات تمتلك أدوات الضغط كما هو الحال بالنسبة للتنسيقيات.

وقد أتثبتت التنسيقيات القدرة على تنظيم الجماهير، وإفراز قيادات تحظى بالمصداقية، وتأطير حشود واسعة وغفيرة، بالإضافة إلى المناصرة الشعبية، والتماسك والصمود، وحرصها على احترام ثوابت المملكة المغربية الأصيلة؛ ورغم محاولة الوسطاء والحكومة في امتصاص الأزمة التي تحركمهم، إلا أنها لم تعد محل ثقة، وفشلت في احتواء الأزمة، بعد الوعود الصورية التي قدمت لها.

وبالرجوع إلى الوضع الحالي في المغرب، فإن التنسيقيات فرضت نفسها ندا للند مع الوسطاء التقليدين، لكونها تتوفر على قيادات، وتصورات، وقادرة على التنظيم، بالإضافة إلى امتلاك أدوات للضغط، كما هو الحال بالنسبة للأزمة التعليم، التي استطاعت فيها التنسيقيات فرض وجودها على الحكومة والأحزاب والنقابات، من خلال شل المؤسسات التعليمية إلى حين الاستجابة للملفات المطلبية، رغم محاولة تبني هذا الملف، إلا أنها رفضت وبصمت على قوة ضغط حقيقية، تؤشر على نمط جديد من السلوك الاحتجاجي.

فالمفروض على الحكومة أن تنتبه إلى هذا النمط الجديد من السلوك الاحتياجي، وتقدر وجودها وقدراتها في التعبئة والتأطير وتوجيه الرأي العام، وإنتاج القيادات، والمهارات التواصلية؛ ما يعني أن الحكومة مطالبة بالجلوس مع التنسيقيات في طاولة الحوار، وإشراكها في صناعة القرار، من أجل طي هذا الملف؛ بعد أن أبانت مؤسسات الوساطة عن ضعفها في تدبير الأزمات، وأكدت على موت الأحزاب السياسية والنقابات.

فالحاجة الملحة الآن قبل الغد، لإنشاء نظام وطني وموحد مؤسساتي للوساطة، بأبعاده السياسية والاجتماعية، من أجل تجديد آليات الديمقراطية، وتطوير أدوات عملها لتكون قادرة على مواجهة التغيرات والديناميات الاجتماعية، وتقديم إجابات فعالة للتحديات المطروحة؛ لا معالجة أزمة التوافقات على حساب الوساطة، الذي أدى إلى اضمحلال منسوب الثقة بين المجتمع والأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني والإعلام.

بالإضافة إلى أن تجاهل الأنماط الجديد من الاحتجاجات من قبل الحكومة، و التعاطي معها بمستوى من الجدية، من السهل أن يسمح باختراق هاته التنسيقيات، وأن يقوض مصالح الدولة إلى عواقب مجهولة، خصوص أن هناك مجموعة من التيارات التي تحاول الانقضاض على التنسيقيات، مع احتمال وجود رغبة من البعض للاستيلاء على قمرة القيادة، وخصوصا وأنها عفوية ومرونة انتقالها.

ولا استبعاد هذا الاحتمال بالنظر إلى خطاب بعض الفصائل، التي تحول أن تكيف خطابها بما يسنجم مع روح مطالب التنسيقيات لأغراض سياسية، كما هو الحال بالتسبة لبعض المغرضين الذين يحاولون الترامي على الدولة وتشويه صورتها، كلما اشتعلت أزمة، بسبب حقدهم الدفين ضد أشخاص في السلطة، والإصابة بعمى الألوان في كل ما من شأنه أن يهدد مصالح الدولة.

وعليه، فإن الحكومة مطالبة بالتعامل بمحمل من الجد، حتى لا تكون التنسيقيات أداة في يد البعض، رغم أنه من غير الممكن التشكيك في حسن نية التنسيقيات، إلا أن المشهد أثبت بالملموس من خلال بعض الخطابات، محاولات لاختراق التنسيقيات من قبل بعض الفصائل والحركات الثورية غير القانونية، بما فيها اليسارية والاسلامية، كما هو الحال بالنسبة لجماعة العدل والإحسان.

 

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *